د. أحمد الخميسي
في 27 أغسطس عام 1956 توفي الشاعر الوطني العظيم علي الغاياتي الذي ربما لم تسمع باسمه الأجيال الجديدة. ولو بيدي لأقمت له نصبا تذكاريا ضخما في دمياط حيث ولد عام 1885 وأطلقت اسمه على شارع كبير عامر بالحركة وجعلت حياته الفريدة وكفاحه الثابت جزءا من التعليم المقرر في المدارس. ولد الغاياتي وقد وقعت مصر لتوها في قبضتي الاحتلال الانجليزي واستبداد الخديو، وما إن اشتد عوده حتى انضم إلى صفوف الحزب الوطني مع مصطفى كامل ومحمد فريد حملة شعلة النضال الوطني الذي تفجرت بعده ثورة 1919، وخاض على صفحات مجلة كان يصدرها الشاعر خليل مطران أولى معاركه الصحفية عام 1907 ضد رجال الدين الموالين للقصر والاحتلال ووصفهم بأنهم:"من ذوي الأفكار العتيقة البالية الجهلة"، فسجنته الحكومة جراء شجاعته نحو أسبوعين، خرج بعدها ينشر قصائده النارية ويؤيد كل فعل ثائر في مصر والهند من أجل جلاء الانجليز والعمل بالدستور ومكافحة الفساد ونشر التعليم. وحين زار مصر الرئيس الأمريكي تيودور روزفلت عام 1910 وأشاد في زيارته بالاحتلال البريطاني هاجمه الغاياتي بعنف على صفحات الجرائد، فلفقت له الحكومة تهمة سجن بسببها فلم يغير السجن منه شيئا، وخرج ليواصل مقالاته وقصائده حتى أصدر عام 1910 ديوانه الشهير " وطنيتي"، وكان الزعيم محمد فريد قد كتب مقدمة للديوان، وأضاف الشيخ عبد العزيزجاويش كلمة إليها، فقدرت الحكومة أن الديوان المشحون بالغضب على الاحتلال والقصر عمل عدائي، وحكمت على محمد فريد وجاويش بستة أشهر سجن وسنة كاملة لعلي الغاياتي، لكن الشاعر الوطني العظيم كان قد قص شاربه ولبس نظارة سوداء وتنكر في ملابس أفرنجية ( وهو أزهري) ثم تمكن من ميناء الاسكندرية من الهروب إلى تركيا ! ويقول فتحي رضوان في كتابه " عصر ورجال" عن ديوان وطنيتي الذي سجن ثلاثة رجال : " إنه بلا شك ديوان الوطنية المصرية في الفترة ما بين سنة 1907 حتى سنة 1911 وإذا قرأته اكتملت لديك صورة كاملة للعهد الذي ظهر فيه . إذ لم تترك قصيدة منه حدثا سياسيا إلا وتعرضت له بروح ثائرة محبة للوطن". لم يطل الغاياتي إقامته في تركيا حيث كان يصدر جريدته " دار الخلافة" فهاجر إلى سويسرا وتزوج هناك من سيدة فرنسية وعاش على تدريس اللغة العربية وأصدر في جنيف صحيفته " الشرق" وداوم على الكتابة لصحيفة الحزب الوطني في مصر، مجاهرا في كل مكان بعدائه الثابت للاحتلال والاستبداد.
وقد حاول الغاياتي العودة الى مصر عدة مرات، أولها عام ١٩١٧، حين عاد متخفيا أملا فى حفظ القضية، فنصحه أصدقاؤه بعدم المحاولة، ثم ثم حاول مرة ثانية بعد صدور دستور ٢٣، لكن الانجليز كانوا له بالمرصاد نظرا لنشاطه الوطنى فى جنيف. وهكذا أقام علي الغاياتي في جنيف حتى الخامس من فبراير 1937 حين صدر عفو ملكي عنه، فرجع إلى القاهرة ليصدر مرة أخرى جريدة " منبر الشرق" ويعيد طباعة ديوانه وطنيتي ويواصل الشعر في محبة الوطن. يستحق الغاياتي محبة كل أبناء الوطن في ذكرى وفاته السادسة والستين التي تحل في 27 أغسطس.