كمال زاخر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
13 ـ تحالفات ومصادمات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أعود فأؤكد أن تناولى هنا لا يقترب من الأرضية اللاهوتية أو الروحية، وسطورى ليست تقييماً لشخوص المرحلة محل القراءة، وإنما هى فى تقديرى محاولة لفهم تشابكاتها وتفاعلاتها بقدر ما توفر لدى من معلومات ومشاهدات، وبعض من حوارات جرت مع اضداد أبرزهم كانوا اصدقاء حميمين لبعضهم ثم قفزوا إلى دوائر الصدام والخلاف، جمعتهم طموحات التغيير وفرقتهم صراعات السلطة. بحسب موقعهم منها اقتراباً وابتعاداً، سعياً ونفوراً.
أميل إلى الإعتقاد بأن تحالفات ومصادمات جيل الشباب فى أربعينيات القرن المنصرم كانت تتشكل على أرضية سياسية، شأنها شأن مثيلتها فى الشأن العام، وما الجدل اللاهوتى والتأويلى إلا غطاء يقدم لتبرير الصراع، وتسويغه فى الشارع القبطى، كان كل طرف يرى أن قناعاته هى الصواب المطلق.
ولم يكن بينهم من تشكلت رؤيته ـ وقتها ـ على دراسة اكاديمية آبائية، فى كنيسة تقليدية، عمادها التقليد الآبائى، وكان لهم عذرهم فلم يتوفر لهم من تراث الآباء المحقق، والمدون باللغة العربية، إلا النزر اليسير، فراحوا ينهلون من مصادر متاحة، تشابهت عليهم، ولعلنا مازلنا نتذكر ترجمات تفاسير اسفار الكتاب المقدس وسير شخوص أنبياء العهد القديم، التى عكف الأستاذ حافظ داوود، القمص مرقس داوود فيما بعد، على ترجمتها علمانياً وكاهناً، ابرزها سلسلة تفاسير الكتاب المقدس للقس الانجليكانى ماثيو هنرى (متى هنرى)، والعديد من الكتب الروحية وترجمات شخصيات الكتاب المقدس للكاتب ف. ب. ماير، فضلاً عن كتاب الدسقولية (قوانين الرسل)، وتاريخ الكنيسة ليوسابيوس القيصرى، إضافة إلى تعريبه لبعض الكتب التراثية وفى مقدمتها كتاب "تجسد الكلمة" للقديس اثناسيوس الرسولى (القرن الرابع) عن ترجمة انجليزية. وهو عمل بمعايير وقته بطولى واستثنائى يستحق التقدير. ولا يمكن إغفال أثره فى تشكيل قناعات غالبية ذاك الجيل.
وبحسب أحد الباحثين ممن اقتربوا من المشهد آنذاك (لقد جاهدت الكنيسة بفضل علماء أفذاذ عصاميين شقوا طريقهم وحدهم وقدموا الكثير. فعندما أراد الأستاذ حبيب جرجس أن يقدم كتاباً دراسياً فى اللاهوت النظرى اختار محاضرات الأب أوجين دى بليس الفرنسى الكاثوليكى فصارت مادة تُدرَّس فى الكلية الإكليريكية .. وعندما وضع كتابه المشهور عن أسرار الكنيسة السبعة كان أهم مرجع استند إليه الأستاذ حبيب جرجس هو كتاب "الأنوار فى الأسرار" للمطران جراسموس مسرة مطران اللاذقية للروم الأرثوذكس. وفى عرضه لموضوع الكهنوت سجل استاذنا حبيب جرجس أنه قد اعتمد على مقالة نشرتها الكنيسة الإنجليكانية، وأنه ضم أغلب ما فيها إلى الفصل الخاص بالكهنوت).
وتولت جمعية المحبة التى اسسها نفر من اراخنة الكنيسة (العلمانيين) مهمة طبع ونشر وتوزيع هذه الكتب، عبر مكتبتها (مكتبة المحبة) التى تولى ادارتها الأستاذ يونان نخلة، والتى صارت أهم المكتبات المسيحية فى نشر الكتب الروحية والكنسية الطقسية، فى مرحلة شهدت مداً مؤثراً للجمعيات الدينية المسيحية فى دوائر التعليم وبناء المدارس والمستشفيات والكنائس أيضاً.
وقبل أن ينتصف القرن وقد شب جيل شباب الأربعينيات عن الطوق تصدر اللجنة العليا لمدارس الأحد مجلة شهرية "مجلة مدارس الأحد"، ابريل 1947، لتكون صوتها وتحمل رؤيتها، وتكشف عن توجهها الذى أكدته إفتتاحية العدد الأول لها [بيد قوية، هى يد الله العلى القدير، تصدر مجلة مدارس الأحد، وما قصدنا من إصدارها زيادة عدد ما يصدر من مجلات .. لكننا رغبنا فى أن نبعث بعثاً جديداً فى المجتمع القبطى .. لقد اعتزمنا أن تكون مجلة مدارس الأحد صدى لصوت الله الرهيب لإصلاح الفرد والمجتمع، ليجد فيها هؤلاء جميعاً غذاءهم الروحى والإجتماعى والأدبى والعلمى].
وفى افتتاحية العدد الأول من عامها الرابع (يناير1950) يؤكدون من جديد توجههم ويضيفون (هذه المجلة تريد أن ترفع الصوت عالياً، وتنبه كل مسئول، وكل فرد، وإنها تريد أن تخلق الرأى العام فى الكنيسة، وأن توجهه، حتى يضطر كل واحد ممن يقود كنيستنا أن يتوارى، ولا يظهر أمام الناس حين يعمل ما يخالف رسالة الكنيسة، أو حين يحاول أن يشغلنا بالأمور التافهة.).
على الضفة الأخرى من النهر كانت تتشكل مجموعة موازية من نفس الجيل، ربما متفقة مع الأولى فى الهدف لكنها تختلف عنها فى الطريق، والأدوات، لعلها ادركت أن "وصل ما انقطع" هو نقطة الإنطلاق، وحتى يتحقق الوصل يتحتم أن تكون اليونانية حاضرة، والمخطوطات، فى عمل اكاديمى مؤسسى وتبلورت فى اتجاهين أو بشكل أدق فى مجموعة انتهى بها الأمر إلى مجموعتين، أحداهما علمانية مدنية، والثانية علمانية رهبانية. ومع الأولى ولدت حركة التكريس النظامية، عبر خطوات مدققة وجادة سبق وتتبعناها فى كتابنا "الكنيسة صراع أم مخاض ميلاد" (2019)، كانت فى شقها العلمانى يقودها الدكتور نصحى عبد الشهيد ومعها تأسس بيت التكريس بحلوان، فيما كانت فى شقها الديرى يقودها القمص متى المسكين والذى استقر فى نهاية المطاف فى دير الأنبا مقار ببرية شيهيت، وجمع بينهما دأبهم على استحضار تراث اباء الكنيسة الجامعة قبل الانشقاق وبعده، فى اصوله اليونانية وتحقيقه وتعريبه، واتاحته للدارسين والباحثين والشباب. وعبر كلاهما تم تكوين مجموعات من الشباب وابتعاثه الى اليونان للدراسة والتخصص فى التراث الفكرى واللاهوتى للآباء، بالتكامل مع استحضار مدرسين ليونانية الآباء، لرهبان الدير. فى تجربة ثرية مازالت تنتظر من يقترب منها بحثاً ودراسة وتقييماً.
اللافت أن الواقفين على ضفتى النهر لم يبادرا بمد جسور التواصل بينهما، ولم يلتفتا إلى الجفاف الذى لحق بالنهر بفعل عوامل الإنقطاع المعرفى التاريخى الذى كاد أن يحول دون استمرار تدفق المياه المغذية والمجددة له، وصارت الكنيسة كياناً يعيش على الكفاف بما تبقى لها من زخم ليتورجى ابقاها بالكاد على قيد الحياة. وكان ـ ومازال ـ التربص يحكم مواقف كثيرة بينهما، واقتحم مصطلح "هرطقة"، المعادل القبطى لـ "التكفير"، قذائف الحوار عن بعد بينهما. وانتشر فى المجال الكنسى الحيوى وطال قامات لها ثقلها اللاهوتى والروحى، وفيما تتصارع الأفيال يستمر نزيف تحطم العشب تحت ارجلهم الثقيلة.
كانت آليات الصراع السياسى حاضرة، وبقوة، فى ادارة المواجهة بين الفرقاء، التى لفتت انتباه الصحافة العامة، وإن كنت أظن أنها استدعيت من أحد أطراف المواجهة، فراحت تحوم حول تخوم الكنيسة وتتسقط أخبارها، وفى احيان كثيرة تصنعها وتوجهها، ربما بايحاء من داخل المطبخ الكنسى، كانت المكاسب الذاتية القريبة مغرية لمزيد من الصخب.
صار للأقباط ملفاً أساسياً فى صالة تحرير الصحف، ينافس نظيره فى الأجهزة الأمنية، وأجهزة المعلومات، وحين داهمنا العالم الإفتراضى الصاخب قفزت عليه اللجان الإلكترونية المصنوعة فى أروقة مراكز القوى القريبة من مراكز اتخاذ القرار الكنسية ومحل ثقتها، لتصب مزيداً من الزيت على النار. بعقل بارد وقلب فقد بوصلته الضميرية.
جرى بنا الزمن فى حركته الرتيبة ويرحل جل جيل الأربعينيات، وقد خلف اجيال تفتقر لحنكته ولكثير من قدرته على ادارة الصراع، واستبقت لنفسها اللدد فى الخصومة مع الفقر الفكرى وغياب الرؤية. مع تطور الأدوات والإمكانات التقنية، ليتحولوا الى سلطة غاشمة تتورط فى اغراق السفينة بغير وعى.
استأدن القارئ فى التذكير بما كتبته متعلقاً بهذه الاشكالية فى كتاب (الكنيسة صراع أم مخاض ميلاد؟) السابق الإشارة إليه:
[ـ جزء من الأزمة المعاشة يعود إلى التواجه بين مدرستين إحداهما اعتمدت فى منطلقاتها على المراجع المترجمة عن اللغات الحديثة، والأخرى تبنى رؤيتها على الكتب اليونانية، ويقف بينهما ما تعرفه علوم الترجمة من اختلافات دقيقة ومؤثرة، تحكمها بنية اللغة وادواتها ومصطلحاتها ومعانيها، وقدرتها على النطق بالمصطلحات اللاهوتية، وزاد من تعميق المواجهة دخول جناح ثالث اعتمد فى رؤيته على متشابهات تحملها مراجع غير ارثوذكسية.
ـ وجزء منها يعود إلى طبيعة المناخ الذهنى العربى الشعبوى السائد، وقد تسلل إلينا بحكم الثقافة واللغة والإحتكاك المعيشى، والذى يستثقل التعددية والتنوع، ويميل إلى "واحدية" الرأى، ويبنى تصوره أو قناعاته على كثير من الإنطباع وقليل من الدراسة والبحث، وتغيب عنه فى الغالب القواعد الموضوعية الحاكمة.
ـ وجزء ثالث منها هو الخلط بين العقيدة والرأى والتفسير، ولعله الأخطر، خاصة فى منظومة تقليدية هيراركية، تعانى من موروث ثقيل مازال عالقاً بأجوائنا، فى علاقة اصحاب الرأى بأصحاب القرار، ومازلنا نعيد انتاج تجاربنا السلبية فى هذا الأمر، على غرار ما حدث بين الباحث الموسوعى العلامة أوريجانوس، والبابا القديس ديمتريوس الكرام. وما حدث مع البطريرك العالم يوحنا ذهبى الفم من البطريرك البابا ثيئوفيلس، الذى حرمه وأوصى بنفيه، وقد نكون بحاجة والأمر كذلك إلى استكمال المشهد باستنساخ ما قام به البطريرك اللاحق له القديس كيرلس الكبير، والذى رد لذهبى الفم اعتباره، بعد وفاته فى منفاه، بل واعتمدته الكنيسة القبطية ضمن قائمة قديسيها ومعلميها الثقاة.]
::::::::::::::::::::::::::::::::::
::::::::::::::::::::::::::::::::::
وبعد ...
أدعو الكنيسة؛ مجمع الاساقفة والمفكرين والبقية الباقية من المهمومين بتصحيح المسار إلى ترتيب دعوة للمصالحة بين الفرقاء مؤسسة على ارضية الحوار الموضوعى المبنى على ما لدينا من تعاليم الكنيسة الأولى والذى توفرت على ترجمته وتعريبه مؤسسات ثقافية قبطية بتدقيق علمى.
فهل من استجابة؟!.