مدير المركز المصري للحق في السكن
بقلم : أنطوني ولسن
الأستاذة منال الطيبي هاتان الصورتان من أهم الصور التذكارية عندما ذهبت لجنة من مصلحة الأحوال المدنية لأعداد أهل النوبة للتهجير إلى كوم أمبو عام 1964 إحداهما وأنا واقف والأخرى وأنا عن يسار العمدة .
قضينا 45 يوما من أجمل أيام حياتي نتنقل من قرية الى قرية بالمراكب الشراعية ، وفي كل قرية كنا نحظى بأحسن إستقبال وتعاون من جميع أهل القرى .
كنت أشعر بالأمن والأمان وسطهم لطيبتهم وسماحتهم وإكرامهم للضيف . كنا قد أخذنا معنا كل ما نحتاجه من طعام . لكن من أول قرية آبو هور أصر العمد على أن تكون ضيافتنا على أهل النوبة البسطاء من الفطار صباح كل يوم ، وفي الظهيرة " الغداء " وفي المساء " العشاء " . الشيء الوحيد الذي لم أستطع تذوقه كان الخبز الذي يخبز على النار داخل حفرة على ما أتذكر . وجدت الحل بإرسال أحد الجنديين اللذين كانا بصحبتنا الى أسوان لاحضار " العيش الشمسي " لنا يكفينا لفترة ثم يذهب " الجندي " الثاني وهكذا .
تصادف وجودنا شهر رمضان الكريم في النوبة . إلتقينا هناك بالفنان النحات آدم حنين الذي منحته الدولة 4 سنوات لعمل تماثيله من الخشب في بلاد النوبة . كنا 3 مسيحيين الفنان آدم حنين وزميلنا فايز وأنا والباقون كانوا يصومون ماعدا شخص واحد كان يدخن كثيرا فلم يستطع الصوم .
في إحدى القرى حدث أن تصرف هذا الشخص بغباء مع خفير العمدة مما أغضب العمدة وأهل القرية ولم أكن على علم بما حدث .
وقت الأفطار إنتظرنا مجيء العمدة ومعه الأفطار . لكنه لم يأتي . لم أتكلم لكني نظرت إلى الزملاء مستفسرا . أخبرني أحدهم بما حدث . كان من الطبيعي أن أذهب إلى العمدة لأعتذر له وأعاتبه لأننا ضيوف عليه وعلى القرية . نهض الرجل وأعتذر وقبلني وأمر بحمل الفطار وتوجه معي إلى حيث نقيم وطلبت من الزميل أن يعتذر للعمدة والخفير . لكن اهل القرية لم يغفروا له . لم يتأخرأي منهم في خدمتنا وتقديم المساعدة لنا وأهمها ما نحتاجه كالسجائر والتي هي نقطة ضعف ذلك الزميل ، وكانت التجارة عبر " الفلوكة " ولا توجد محال تجارية في القرية أو أي قرية .
كانت تصلني ما أحتاجه من سجائر أو مياه غازية لكنهم حرموه مما زاد من توتره .
في احد إنتقالاتنا بالمركب الشراعي الكبير كنت مسترخيا فوق مقدمة المركب . الريح لم تكن شديدة لكن كان " المراكبية " يميلون بالمركب يمنة ويسرة وهم يشقون مياه النيل . فجأة أنكسرت ما يسمونه " البومة " وبدأ الهرج والمرج فوقفت وصرخت بأعلى صوتي طالبا آمرا كل يقف في مكانه دون أية حركة وترك " المراكبية " العمل على توازن المركب . شكرا لله أنهم إستمعوا لصوتي وتم أرساء المركب إلى بر الأمان حيث تم أصلاح " البومة " . أثناء ذلك أحضر لنا أهل القرية الطعام فقد كان وقت " الغداء " .
في كل قرية نزلنا بها كنت أستمتع الحديث مع كبار السن وهم الأكثرية كذلك النساء لعدم وجود الشباب والرجال لسفرهم بالخارج للعمل . خلاصة الأحاديث التي كنت أستمع إ ليها كانت تنحصر في أنهم يفضلون الموت والدفن في أرضهم وأرض أجدادهم النوبية على العيش بعيدا عن النوبة .
بعد ذلك تصادف أن ذهبت إلى أسوان خصيصا مع زميل للتوجه الى مركز إدفو التابع لمحافظة أسوان لعمل جرد كامل لمكتب بطاقات السجل المدني تمهيدا لأرسال من يقوم بالعمل لذهاب الموظف الى الخدمة العسكرية . إنتهزت الفرصة .. فرصة وجودي بأسوان وذهبت إلى كوم أمبو لأرى المنازل التي أعدت للنوبيين . وكانت الصدمة .
بيوت النوبيون في بلاد النوبة لها طراز كان مركز إنبهار المهندسين الأجانب الذين وفدوا بعد البدء في بناء السد العالي للأطلاع على الفن المعماري المتميز . أما تلك البيوت التي أعدوها لهم في كوم امبو حيث تكون درجة الحرارة فوق الأربعين لا تقارن بما كانوا يعيشون فيه .
شعرت بالآسى فقد كانت بيوتهم لا تحتاج الى مراوح في الصيف ولا الى دفايات في الشتاء . كل ما تفعله فتح شبابيك معينة في الصيف لتصل إليك نسمات الهواء المنعشة وفي الشتاء دفء الشمس . فأين كل هذا حيث هم في كوم امبو ؟ لم أذهب الى أسوان مرة أخرى غير في عام 1991 مع أسرتي وحفيدتي في ذلك الوقت ولم أجد الوقت للذهاب إلى كوم امبو .
بني السد العالي وتم تهجير أهل النوبة وغطت المياه أراضيهم بما عرف ببحيرة ناصر التي قالوا عنها أنها ستكون مصدرا رئيسيا لأشباع الشعب المصري بالأسماك فهل حقا وفعلاً شبع الشعب المصري بالأسماك ؟ من الطبيعي الأجابة لا .
هل وفر السد العالي المياه اللازمة للشرب لأرتواء الشعب المصري ؟ الأجابة أيضا لا . بل ازداد الشعب عطشا وأصبحت المياه غير صالحة للشرب وازدادت أمراض الكُلى والسرطان وغيرها من أمراض .
بالنسبة لأهل النوبة فقد جاء ذكر جدهم الأكبر " كوش " في كتب التوراة والأنجيل
والذي هو أخو " مصرايم " وكلاهما من " حام بن نوح " . اي من الشعوب السامية
سيدتي .. لقد وعدتك بوضع إستقالتك ضمن هذا المقال . لكن إسمحي لي بنقل بعضا منها :
** سبق وأن أصدرت بيانا الى الرأي العام إنتهيت فيه الى تعليق عضويتي في لجنة الحقوق والحريات بالجمعية العامة لكتابة الدستور مع استمرار عضويتي بالجمعية . وقد كان البيان سالف الذكر رسالة توضيح وتحذير في ذلك الوقت في تلك الأمور التي يتم الترتيب المسبق لها ، فيخرج دستور الثورة في صورة محددة معد سلفا وبما لا تتحقق له أهداف الثورة المصرية المجيدة من حرية وعدالة اجتماعية وكرامة إنسانية لجميع المواطنين ...
** علي الرغم من إسداء النصح من الكثيرين بعدم المشاركة ، إلا أنني آثرت خوض التجربة لأكون شاهدة عيان على تلك التجربة التي اصفها الأن وبحق ، انها تجربة مريرة وسوداء . انني وصلت الى قناعة نهائية انه لا جدوى في الأستمرار في الجمعية التأسيسية إذ أن المنتج النهائي لنضالي بتقديم العديد من المقترحات والنصوص الدستورية التي تعبر عن الحرية والعدالة الإجتماعية والكرامة الأنسانية لجميع المواطنين دون أي تميز لن يرقَ أبداً الى المستوى الذي يطمح إليه غالبية الشعب المصري . بات واضحا أن الدستور المصري يعد ليكون على مستوى فئة محددة تُرسخ مفهوم الدولة الدينية لتستحوز بذلك على السلطة ليتمخض الأمر في نهاية المطاف عن دستور يحافظ على ذات الركائز الأساسية للنظام الذي قامت الثورة بإسقاطه مع تغير في الأشخاص فقط وليس تغيرا جذريا في بنية النظام لحتمية الثورة المصرية المجيدة ...
** اتجهت الى الأختيار بين كابوسين حقيقيين لرئاسة الجمهورية . رئيسا لدولة استبدادية فاسدة للعسكر والمخابرات ، بين قوسين " احمد شفيق " . أو رئيس سيضع أسس دولة إستبدادية دينية فاسدة بما يسمى بين قوسين " الإسلام السياسي " برئاسة محمد مرسي والتي انتهت بفوزه .
تلك التجربة في الجمعية التأسيسية بكل اسف لم يكن وضع الدستور الجديد استثناء مقبولا على وضع دستور أسوأ من كل الدساتير السابقة من خلال جمعية تأسيسية قد تم تشكيلها على نظام القوة العسكرية كاملة السلطة آنذاك والإخوانية بالغالبية البرلمانية من إخوان وسلفيين ووهابيين لإعداد دستور يشكل أساسا
لنظام قديم ليس فقط يميل لإعادة النظام السابق لإقامة دولة تكون مهمتها المباشرة هي تصفية ثورة الخامس والعشرين من يناير لعام 2011 السياسية الشعبية المجيدة. فبلتالي أن الدستور الجديد والنظام الجديد لا يحملان اي بشارة ولا إنصاف لشعبنا بكل جماهيره وفقراءه وفئاته وأطيافه ومنها أهلي الكرام في النوبة الذين شرفوني بترشيحي لعضوية الجمعية .
وبناء على ما سبق واتفاقا مع ضميري كمواطنة مصرية ، ومبادئي كناشطة سياسية تدين بالولاء لثورتنا المجيدة وترفض المشاركة في بناء الثورة المضادة . فإنني أتقدم لسيادتكم بإستقالتي من الجمعية النأسيسية للدستور وإنسحابي منها . كما أدعو الشرفاء ان يقوموا بذلك .
سيدتي الفاضلة لقد نقلت للقراء معظم ما جاء في إستقالتك التي قرأتينها أمام الأعلامي محمود سعد في برنامج " أخر النهار " .
التاريخ .. قديمه وحديثه ومعاصره يخبرنا أن الفكر المتطرف أو المتشدد يبدأ بمجرد فكرة في خيال فرد أو أفراد قلائل يقتنعون بها ثم يبدأون في نشرها بين أوطانهم ، بغض النظر عن نوع الفكرة إن كانت دينية أو وطنية متشددة أو أسلوب جديد للحياة . على سبيل المثال لا الحصر سنجد أن روسيا الشيوعية قد بدأت للأطاحة بالقيصر وإحلال ما أطلقو عليه الأتحاد السوفيتي وتم إلغاء كل ما هو ديني من حياة الشعب الروسي وراح ضحيتهم مئات الملايين من الروس . كل ذلك بدأ بفكرة لكارل ماركس وتبناها لينين وكانت وبالا على روسيا والشعب الروسي .
المانيا عندما تولى أدولف هتلر السلطة طافت بمخيلته فكرة النازية وأقتنع عدد ضئيل جدا بها من الألمان . لكن أعداد كبيرة من الألمان كانوا يرون فيها عودة الأعتزاز بألمانيا والجنس الألماني . مع ذلك كانت الأكثرية منشغلة وغير مهتمه وأعتبرت النازيين ماهم إلا مجموعة من الأغبياء وتركوهم يفعلون ما بدى لهم .لكن قبل أن تتكشف الحقيقة . كان النازيون قد تحكموا في الشعب .. وبقية القصة معروفة .
الصين قضت على ما يقرب من 12 مليون صيني لتنشر الشيوعية الصينية التي إختلفت قليلا عن الماركسية التي نادى بها كارل ماركس وقد إنفصلت هونج كونج عن الصين بمعاهدة بين الأنجليز والصين على أن تبقى هونج كونج تحت الحماية البريطانية لفترة إنتهت منذ سنوات قليلة مضت وعادت إلى الصين لكن بعيدة عن أي فكر شيوعي .
القاعدة كانت حلم بن لادن أن تكون لديه قوة إسلامية تدافع عن الأسلام وتعمل على نشره فوافق على إشتراكه في مواجهة الروس في أفغانستان بأوامر من أميركا والمملكة المتحدة البريطانية ليحارب تحت ظروف صعبة بالنسبة لتضاريس أفغانستان الجبلية . ثم إنضم إليه الدكتور الظواهري صاحب فكرة الجهاد الأسلامي ضد كل ما هو غير إسلامي وأصبح إسم القاعدة ينطبق على المجموعتين .
الأخوان المسلمون .. بدأ تنظيمهم بحلم تبناه الشيخ حسن البنا بعد إنهيار الخلافة العثمانية في العام 1928 على أن تكون فكرة قائمة على الدعوة ومحاربة المستعمر البريطاني . لكن لم تسير جماعة الأخوان في ذلك الوقت وإلى الأن فيما كان يريد لها الشيخ حسن البنا . بل تخطى كل ما يتصل بالدعوة إلى الأصرار على الحكم . حكم مصر الذي سيساعدهم على الأنطلاق إلى إحياء الخلافة الأسلامية . وقد شاهدنا ما كان ينادي به صفوت حجازي بأن تكون عاصمة الخلافة الأسلامية القدس الشريف لا القاهرة .
وبطريقة أو بأخرى وصلت الجماعة إلى الحكم كان للمجلس الأعلى للقوات المسلحة اليد العظمى في ذلك . منذ إجتماع البرلمان ووضع صورة الدكتور الكتاتني في غرفة رئيس المجلس قبل الأنتهاء من إختيار الرئيس ، والآذان في البرلمان ، والقسم المقرو بما عرف بالقسم الأسلامي ، وما حدث من تحد من المجلس الأعلى للقوات المسلحة قبل إنتخابات الرئاسة ووضع المادة المكملة للدستور مما أوقف عمل البرلمان والعمل على إنتخابات جديدة . والصراع بين السلفيين والأخوان حول الهيمنة على السلطة ، وبعد أن تولى الرئيس مرسي سدة الحكم ، وتكوين الجمعية العمومية للدستور والتي مع الأسف لم ترقَ هذه الجمعية إلى المستوى المطلوب منها لوضع دستور دائم لكل المصريين ، كما تفضلتي وأوضحتيه من أسباب في تقديم إستقالتك ، و مصر تعيش على صفيح ملتهب لا يعرف غير الله إلى أين المطاف .
الخطر الأن على مصر ليس فقط من الأخوان أو السلفيين أو غيرهم . لكن من "المتأخونين " أي المتحولين إلى الأخوان والإنضمام إليهم عملا وفعلا ومساندة على حساب مصر والشعب المصري وثورة 25 يناير 2011 والتي نسبوها إلى أنفسهم ونسوا أو تناسوا ما قدمه الشعب المصري من دماء طاهرة ، لا الأخوان ولا السلفيين ولا أي فصيل ديني أو سياسي في مصر قدم نقطة دم واحدة .
وحتى هذه اللحظة مع شديد الأسف ، لم يثبت الرئيس مرسي بالعمل والفعل وليس بالقول . أنه رئيس لكل المصريين . قد يكون في عرفه أن كل المصريين هم فصيل واحد وهو جماعة الأخوان المسلمين ومن يسير على هواهم حتى لو كانوا غير مصريين بل ينتمون إلى نفس الفصيل الذي ينتمي إليه .
مصر ضائعة بين الفاشية الدينية ، والهوس الجنسي عند " الإسلاميين " ، كما تفضلتي وذكرتي ذلك .
إننا في أشد الحاجة إلى إتحاد القوى الليبرالية الحرة للتصدي للتيارات الأسلامية المتشددة . وإلا قل على مصر يارحمن يا رحيم .