كمال زاخر
بامتداد تاريخنا المنظور كانت دعوات الحوار المجتمعى تأتى عندما نواجه منعطفا أو أزمة أو نذر خطر أو أخطارا فى الداخل أو من الخارج، أو عقب تحولات حادة تستدعى اجتماعنا على كلمة سواء، وكانت الدعوات فى الغالب تأتى من بعض المهتمين والعاملين فى الحقل الاجتماعى أو الاقتصادى، وهى دعوات صحية تجنبنا البديل الخشن الصدامى، والتفاعل معها يكشف عن مدى نضج المجتمع واستيعابه للتكامل والتوافق.
هذه المرة تأتى الدعوة من السيد رئيس الجمهورية وتقفز إلى ما هو أعلى من السياقات التقليدية لتطرق باب المربع السياسى وتضمه للمربعات الاجتماعية والاقتصادية، الأمر الذى يوفر لها مساحات من الجدية والاستجابة لها من كل القوى الوطنية الفاعلة، والخروج بها من دوائر المطالبات الفئوية الضيقة، الى براح الوصول إلى رؤية تذهب بنا إلى عقد اجتماعى جديد يؤسس لبناء وطن يستوعب كل مواطنيه، ويقدر على مواجهة التحديات وترجمة طموحاته على الأرض، من خلال إقرار التعدد والتنوع، وتحويله إلى طاقة ايجابية وقوة دفع حقيقية لغد أفضل.
اكثر ما يتهدد الدعوة والاستجابة لها وترجمتها إلى فعل على الأرض هو تصنيفها (وتصنيمها) من المتطلعين إلى لفت أنظار القيادة السياسية لشخوصهم، ليحظوا بموقع ما أو كرسى فى مجلس، ولهم فى هذا خبرات تاريخية متكررة، مع كل التحولات التى شهدتها الخارطة السياسية، ومع كل التنظيمات التى تعاقبت منذ الاتحاد القومى مرورا بالاتحاد الاشتراكى فالمنابر ثم الأحزاب، وهو أمر يتطلب إعمال الشفافية وعلنية الحوار وقبلهما وضع ورقة عمل تحدد المحاور الأساسية للحوار ومحدداته، ولا يسند الأمر إلى جهة حكومية بل يتم تشكيل لجنة من الحكماء من قيادات الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدنى والحقوقيين، يترأسها شخصية عامة مستوعبة لدقة وحساسية المرحلة.
وظنى أن توقيت الدعوة لم يكن مصادفة، فهى تأتى بعد أن اجتزنا مرحلة إعادة بناء البنية التحتية المتهالكة وربما الغائبة، والتى بدونها لا تقوم تنمية، لتختفى من قاموسنا اليومى معاناتنا اليومية مع مرافق الكهرباء والمياه والغاز والطرق، ليقفز ترتيب مصر فى قائمة جودة الطرق والبنية التحتية من118 إلى 28، وهى مرشحة لأن تقفز الى الأمام مع استكمال ما هو تحت الإنشاء فى تلك المرافق، وبعد أن نجحت الدولة فى التصدى بجسارة لظاهرة العشوائيات التى كانت جاسمة علينا ومتاخمة لكل الأحياء، خاصة فى العاصمة، باتاحة بديل آدمى لقاطنيها، فى ملحمة تعاون جاد بين القوات المسلحة وشركات القطاع الخاص، بدعم من مؤسسة الرئاسة.
وفى ذات السياق تأتى تجربة منظومة الخبز الصداع المزمن فى رأس المواطن والدولة، وكذلك التصدى للأمراض المتوطنة والتى كانت تنهش فى جسد الاقتصاد وكيفية مواجهتها، وإعلان مصر خالية من أخطرها، الكبد الوبائى، لنؤسس اقتصاد الاستثمار فى البشر، ونحوله من رقم يمثل عبئاً إلى قيمة مضافة فاعلة.
ولا أظن أن الدعوة للحوار الوطنى تأتى سعيا لملء فراغ حوارى أو افراغ طاقة تعتمل فى الشارع، بل هى تأسيس لبناء مناخ ديمقراطى يقبل الاختلاف وتعدد الرؤى وصولاً إلى إعلاء مصلحة الوطن العليا، ليجد له مكاناً بين الأمم المتحضرة، وقد يفتح الباب لإعادة هيكلة الحياة الحزبية، وإعادة تقييم القائم من آلياتها، ومعها يدور الحراك الوطنى المحتكم للصوت الانتخابى فى تقييم وقبول الرؤى النهضوية والاختيار بين بدائلها، للصالح العام.
وأرى أن أهم المحاور التى يجب أن تحتل سطور الحوار المرتقب هى آليات تشكيل وتكوين العقل الجمعى، التعليم والإعلام والثقافة، وفك الارتباط بين الدين والسياسة، والانتباه إلى دعم مدخلات الإنتاج، فى دوائر الصناعة والزراعة والخدمات، ومسارات توفير المناخ الملائم لتنميتها، ومراجعة القوانين ذات الصلة، وتنقيتها من القيود المعوقة.
ومن الطبيعى أن يسفر الحوار عن توصيات ونتائج محددة تكشف عن الاتجاه العام لشكل وطبيعة الدولة والعلاقات البينية لمكوناتها المؤسسية والشعبية وطرق ادارتها، وصولاً إلى تحولها إلى دولة مدنية حديثة، تترجم فى مواثيقها الحاكمة مفهوم المواطنة كقاعدة تحكم مساراتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتضبط ايقاع العلاقة بين مواطنيها بعيداً عن التمايزات الدينية والطائفية، والمادية والعرقية والاقتصادية. ومن المتوقع أن يسفر الحوار عن اكتشاف حاجتنا لمراجعة وثائقنا القانونية الحاكمة لحركة المجتمع وعلاقاته البينية، ونجدنا أمام جولة حوارية جديدة تنطلق من نتائج الحوار الوطنى إلى وضع دستور جديد يؤكد مدنية الدولة ويتبنى المواطنة منطلقا، ويرسخ قيم الحرية والعدالة والمساواة.
نقلا عن جريدة الأهرام