بقلم: كمال زاخر موسى
المتابع للنظام الانتخابى الحالى سواء فى نطاق المحليات أو البرلمان بمجلسيه لابد وأن يتوقف عند اشكالية عدم ملائمته للواقع المصرى والتحولات التى طرأت عليه بفعل الخيار الديمقراطى الوليد وبفعل ظهور حراك مجتمعى كشف عن الحاجة الى تبنى نظم جديدة تسمح بتمثيل التيارات المختلفة فى تلك المؤسسات، والتى اتجهت إلى التعبير عن نفسها عبر آليات الإحتجاجات الفئوية والنوعية والإعتصامات والإضرابات السلمية، ولا يمكن هنا إغفال الدور الفاعل للتواصل عبر التطور المذهل والمتسارع لتكنولوجيا الإتصالات، الفضائيات وشبكة المعلومات الالكترونية (الإنترنت)، كواحدة من منتجات العولمة.
ويعد النظام الإنتخابى المناسب لطبيعة العلاقات داخل المجتمع وتوزيع القوى والكتل والتيارات السياسية المختلفة هو الآلية المحورية لترجمة اصوات الناخبين ـ وفق تلك العلاقات وحجم تلك القوى ـ إلى مقاعد تمثلهم فى المحليات والمجالس التشريعية، ومن هنا يصبح دراسة وضع نظام يحقق التمثيل الحقيقى والعادل لها أمراً وجوبياً يتحمل مسئوليته كافة القوى المستنيرة والساعية لضبط ايقاع الحياة السياسية سعياً لاستقرار يمكن من خلاله تحقيق طموحات ومصالح الوطن كجسد متكامل عبر توظيف التعددية بشكل ايجابى بعيداً عن التناحر والشخصتة، وكلما نجح النظام الإنتخابى فى افساح مكان للتيارات المختلفة وللأقليات كلما أدى هذا إلى انحسار اللجوء إلى وسائل غير ديمقراطية صدامية وعنيفة.
وفى ظنى ان نظام الانتخاب الفردى لم يعد ملائماً لطبيعة المجتمع المصرى اليوم، وقد افرز لنا مجالس فى غالبها منبتة الصلة بالشارع وهموم المواطن واحتياجاته، وشهدت معاركه الانتخابية سلبيات عديدة لعل أهمها بروز دور الضغوط المالية المستثمرة للأزمة الإقتصادية وظهور البلطجة فى بعض جوانب تلك المعارك، وغير بعيد تتبدى آثار الاختراق الطائفى وتغلغل التيارات غير الشرعية تحت غطاء المستقلين، الأمر الذى أدى إلى تراجع المشاركة الحقيقية من قبل غالبية الناخبين ( بلغت نسبة المشاركة فى الانتخابات التشريعية الأخيرة نحو 23% من جملة من لهم حق التصويت ، وهم فى مجملهم يمثلون ما لا يزيد عن 40% ممن لم حق استخراج بطاقات انتخابية بحسب الأرقام المعلنة)، ودعم هذا العزوف غياب الوعى الانتخابى لدى كثيرين فضلاً عن انعدام الثقة فى أهمية المشاركة وهو موروث شعبى تولد وتأكد عبر العصر الشمولى عقب يوليو 52 والذى تبنى توجه الكل فى واحد عبر نظام أبوى فيما عرف بالشرعية الثورية والتى حلت محل الشرعية الدستورية ، وذهب النظام الشمولى بينما بقيت أثاره فى الذهنية الجمعية.
ومهما كان النظام الانتخابى مناسباً ومحققاً لتمثيل حقيقى للقوى المختلفة فهو يبقى غير قادر على انتاج أثاره فى غياب أحزاب حقيقية تتكون وتولد فى رحم الشارع لتأتى معبرة بشكل حقيقى عن التيارات المختلفة، ولعل هذا يتطلب إعادة النظر فى المنظومة القانونية التى ترتب قيام الأحزاب لتفسح المجال أمامها بغير تخوف أو توجس فالممارسة الحياتية الحرة هى التى تعطى لها حق البقاء أو تستخرج لها شهادة وفاة، ولا اعتقد أن غالبية الأحزاب المتواجدة على الساحة السياسية ستصمد طويلاً أمام اختبار الطرح الجماهيرى، فهى فى أغلبها تجمع عائلى أو ترجمة لعلاقات شللية أقرب الى المنتديات الثقافية فى أحسن الأحوال، وتعلق إخفاقاتها على شماعة ما تراه قيوداً على حراكها خارج مقاراتها، وهو حق يراد به باطل فى أغلب الأحوال، وقد شهدت ابرزها وخاصة تلك التى لها إرث تاريخى أو ايديولوجى صراعات داخلية على الكراسى كادت ان تسلمها لنفق التجميد.
وقد ظهرت مطالبات بتبنى نظام الحصص (الكوتة) خاصة للفئات المهمشة، وهو ما سبق وطبق فى الستينات ومازال قائماً لليوم فيما يخص العمال والفلاحين بنص دستورى يشترط لهم نسبة 50% من المقاعد فى المجالس المحلية والتشريعية، وهو أمر يحمل بريقاً شعبوياً يغازل قطاع عريض من الشعب لكنه لم يحقق هذا التمثيل على ارض الواقع، ورأينا أشكالاً مختلفة ومتعددة للتلاعب بصفة العمال والفلاحين بحيث اصبح من يحملونها فى أوراقهم الثبوتية فى غالب الأحوال لا علاقة لهم بالقاعدة العريضة التى استهدفها هذا التخصيص.
ويتكرر الأمر اليوم مع المرأة والأقباط، لكنه يحمل خطر تكريس الفرز النوعى والطائفى، فمن المفترض أن يكون عضو المجلس ـ المحلى والتشريعى ـ نائباً عن جموع الناخبين وليس عن نوع أو طائفة، وهو أعادة انتاج لنسق مغازلة قطاع من الشعب لسبب أو لأخر.
واتصور أن النظام الذى يمكن أن يحقق تمثيلاً عادلاً لكل التيارات بما فيهم الفئات المهمشة، هو نظام القائمة النسبية، والتى تعالج ضمناً بقدر نافذ التدخل المالى وسطوته والبلطجة بآن، على أن يشترط فيها على وضع تلك الفئات فى مواقع متقدمة فيها بحسب كثافة التواجد الجغرافى لها بما يسمح لها بالتواجد الحقيقى وليس ذراً للرماد فى العيون.
ونظام القائمة النسبية ينقلنا من المفاضلة على اساس المواصفات الشخصية أو الابعاد العرقية أو الدينية أو النوعية إلى المفاضلة بين البرامج الحزبية المختلفة ، لأنه يقوم بالأساس على تقديم كل حزب سياسى شرعى قائمة بمرشحيه فى كل دائرة من الدوائر الانتخابية على خلفية برنامج انتخابى مستمد من برنامجه الحزبى المعلن، ويقوم الناخبون بالتصويت عليه والإختيار بين الأحزاب وفق ميولهم ومصالحهم ، ويفوز كل حزب بقدر من المقاعد يتناسب مع الأصوات التى حصل عليها، وبالتالى يفوز عدد من القائمة بحسب الترتيب الرقمى وفق المعادلة الانتخابية المتفق عليها، وهنا نضمن الى حد معقول تمثيل الفئات والتيارات المختلفة وخاصة تلك الفئات المهمشة ـ سواء لأسباب تاريخية أو لخلل فى العلاقات المجتمعية أو لغيرها من الأسباب الثقافية والتربوية ـ ونضمن تمثيل نسبى لمختلف الأحزاب بقدر نجاحها فى تسويق برنامجها الحزبى والإنتخابى، وقد يحفز هذا الأغلبية الصامتة العازفة عن المشاركة فى الانتخابات بعد أن تتيقن من عدم اهدار صوتها، ويبعث هذا بشكل متواتر الحياة من جديد فى قيمة وثقافة الإنتماء، وربما يقلص من المد الطائفى، وينعكس هذا كله على الأداء البرلمانى وعلى الأداء فى المحليات وتتدحرج كرة الثلج وتتراكم الايجابيات فى تفعيل الدور الرقابى والتصحيح المتوالى للحياة السياسية وانعكاساتها المجتمعية
على ان هذا يلقى بالعبء على المؤسسات الإعلامية والتعليمية والثقافية من جانب والمؤسسات السياسية والحزبية ـ حاكمة ومعارضة ـ من جانب اخر فى تبنى قضية التنوير والإحتكام للمواطنة كمنطلق لترجمة هذا كله على أرض الواقع ، وبناء جدار الثقة بين الشارع والنخبة السياسية ، وهو مشوار طويل لكنه ممكن وربما حتمى، فهل نبدأ؟!
Kamal_zakher@yahoo.com