قـصـة قـصـيـرة أحـمـد الـخـمـيـسـي
في إحدى الحجرات الضيقة بمقر الصحيفة كان خالد لمعي المشرف على صفحة الفن جالسا إلي مكتبه، ينصت باهتمام للهاتف الملصق بأذنه، وأصابعه تعبث بحركة عصبية بقداحة على المكتب. أمامه على الكرسي الوحيد بالحجرة جلس رسام الكاريكاتير أيمن وعلى ركبتيه حافظة أوراق يمط طرفها من حين لآخر. أنهى خالد المكالمة ونهض على الفور واقفا بوجه متوتر. مسح سطح المكتب بنظرات سريعة وقال: -- لابد أن نغادر هذه القصة فورا.
تقلقل أيمن في مكانه يسأل مدهوشا : -ماذا حدث؟ قال خالد وهو يلم أوراقه ناحيته بحافة كفه: -علمت الآن أنهم هاجموا بيت جمال مؤلف هذه القصة التي نحن جزء منها. وراحوا يسألونه وهو بالبيجاما في حجرة النوم عما يقصده بالقصة، ثم جروه على سلالم العمارة وهم يتوعدونه بإعدام القصة بكل ما فيها من شخصيات وخواطر. هكذا سنكون أنا وأنت عرضة للموت إذا بقينا داخل القصة، أو أننا قد نقضي زمنا نتعفن في عتمة المخازن. علينا أن نجمع أوصافنا حالا ونهرب على الفورمن هذه القصة فلا يجدوا ما يدل علينا عند وصولهم. قال أيمن بين التقرير والسؤال: -لكن الحوار الذي أدارة المؤلف على لساني وعلى لسانك لم تكن به كلمة تمس الخطوط الحمراء المعروفة؟ أجابه خالد: -نعم، لم يكن بالحوار عبارات صريحة لكنه إجمالا يوحي بأن كل شيء أمسى محظورا وممنوعا حتى الهمس. أنت كما صورك الكاتب في القصة رسام كاريكاتير، وأنا مسئول في جريدة عن صفحة فنية، أنت قدمت لي فكرة كاريكاتير عن سجين يطلب كتابا فيقول له الشاويش: الكتاب غير متوفر الآن في مكتبة السجن لكن لدينا مؤلف الكتاب نفسه. ألا ينطوي ذلك برأيك على شيء؟ النظام يميز من على بعد المواطن المخرب من الصالح. قال أيمن: -وكيف يميزون بينهما؟ قال خالد متهكما: -هذه بسيطة. إذا جلس المواطن ووضع ساقه اليسرى على اليمنى فهو يساري، ووجب اعتقاله، وإذا وضع اليمنى على الأخرى فهو يميني ووجب اعتقاله، وإذا لم يضع ساقا على ساق فإنه ماكر لئيم يخفي معتقداته وبالطبع يجب اعتقاله، أما المواطن الصالح فإنه يمشي طول الوقت والعمر يبني مجتمعا جديدا سعيدا. قال أيمن: -لكن أيعقل أنهم أصبحوا يطاردون حتى الشخصيات الأدبية مثلي ومثلك؟ قال خالد : -الفكر والأدب خطر لأن الكلمة قد تمسي حركة، فلا تستهن بخاطر أدبي أو قصيدة أو رواية. تنهد أيمن بحزن: - من سوء حظنا أن يكون الكاتب الذي خلقنا مهموما بقضية الحرية. لو أننا كنا من تأليف كاتب تمثيليات مسلية لكنا قد ضمنا حياة كريمة بدلا من المطاردة. قال خالد:
- لا أحد يختار مؤلفه، وأيا كان ما سيجري علينا فإن حياتنا كانت ومضة ذهنية شريفة، لم يرغمنا المؤلف خلالها على كذب أو نفاق. أردف خالد قائلا : -أظن أن علينا أن نسارع بالهروب من بين سطور القصة قبل أن يدهمونا.
اندفع أيمن ممسكا بحافظة الأوراق يخرج من النص الأدبي ومن خلفه خالد. هبط الاثنان من مقدمة القصة إلي الفقرة الأولى، ثم راحا ينزلقان على السطور وهما يتجنبان الارتطام بعلامات الاستفهام ويتفاديان الفواصل المدببة، إلى أن بلغا الفقرة الأخيرة من القصة فانحدرا على حروف الخاتمة إلي رصيف شارع يضج بالحركة.
قال خالد وهو يعب هواء الحياة الحقيقية: -هل فاتك أن تنظف القصة من أي أثر يدل على وجودنا فيها؟ قال أيمن: -اطمئن. لقد حذفت اسمينا وجمعت كل أوصافنا الجسدية، لكنني لم ألحقةبمراجعة كل التفاصيل. سرح خالد ببصره وصاح: - يا إلهي! قداحتي على المكتب! عد إلى القصة بسرعة وهات القداحة لأن بصماتي عليها، ستجدها في السطر الثاني حين ذكر المؤلف أن أصابعي كانت تعبث بها. استدار أيمن وتسلق آخر حرف في القصة صاعدا إلى أعلى النص، وعندما بلغ الفقرة الأولى منه التقط القداحة بسرعة من السطر الأول، وحين أوشك على الهبوط لمح وصف المؤلف له بأنه " رسام كاريكاتير. يبدو الصدق على ملامحه"، فمحا تلك الجملة، وواصل النزول، وعندما استقرت قدمه على رصيف الشارع نفض سرواله وقال لخالد : -إليك القداحة. لم نعد حاضرين في القصة ولا بكلمة.
تبادل الاثنان نظرة تشجيع وشد كل منهما على يد الآخر بقوة. سددا نظرة إلي الطريق الطويل المفتوح، وبدآ في السير بخطوات حثيثة وهما يتلفتان خلفهما. اجتازا الميدان الفسيح وركضا مثل الريح يلمسان الأرض ويحلقان بضغطة خفيفة فيرتفعان إلى قباب المدينة وقلاعها، يخفقان في السماء، وكلما شعرا بالتعب هبطا إلي المقاهي، يجلسان قليلا بين الناس ثم يصعدان من جديد مع الخواطر الفنية، إلى الشخصيات الأدبية، والأفكار التي تحتمي بالسماء.