عرض: جرجس بشرى
يتناول كتاب "يهود مصر منذ عصر الفراعنة حتى عام 2000" لمؤلفه عرفه عبده علي تاريخ الوجود اليهودي في مصر عبر العصور التاريخية المُختلفة، بدءًا من الخروج مرورًا بالعصر البطلمي ثم الروماني ثم الإسلامي، وكذا مُعاملات اليهود الإجتماعية والسياسية والإدارية عبر هذه العصور، فالكتاب يُعد بمثابة مرجع لا غِنى عنه للباحثين الأكاديميين بشكل عام لمعرفة تاريخ الوجود اليهودي في مصر بصورة أكثر دقة وحيادية، كما أنه يُساهم في إزالة كثير من رواسب الجهل أو التجاهُل المُترسبة في العقلية الإسلامية والمصرية عن يهود مصر بشكل خاص، بل وعن اليهود بشكل عام.
والكتاب صادرعن الهيئة المصرية للكتاب عام 2000، وعدد صفحاته 519 صفحة، وفي مقدمتة لخص الكاتب ببراعة فائقة تاريخ الوجوداليهودي في مصر عبر العصور المختلفة، مستشهدًا بالمراجع التاريخية، وسوف نستعرض سويًا في هذا الكتاب ما يجهله المصريين عن الطائفة اليهودية المصرية ودورها البارز في الحياة الثقافية والاقتصادية في مصر، وقبل التعرض لهذا الموضوع نود الإشارة هنا في لمحة عابرة إلى بداية الوجود اليهودي في مصر كالتالي:
* اليهود في مصر الفرعونية:
يشير الكاتب إلى أن الهجرة تُعد سمة بارزة في تاريخ الشعب اليهودي بوجه عام، حيث أن اليهود في هجرتهم الدائمة ما بين بلاد العراق وحوران وكنعان كانوا يعيشون بجوار القبائل ولم يكن في استطاعتهم التغلب على واحدة من هذه القبائل، حتى لجأوا إلى مصر وخرجوا منها بعد عدة قرون إلى الأرض التي ادّعوا أنها "أرض الميعاد"، ولم يستفد اليهود من هجرة في تاريخهم كله كما استفادوا من هجرتهم إلى مصر، فعرفوا الإستقرار والحياة الرغدة على ضفاف النيل، ونهلوا من مناهل الحضارة المصرية، الأمر الذي زاد من خبرتهم في تدبير شئونهم والدفاع عن أنفسهم ومارسوا فنون الزراعة، كما ذهب المؤرخون إلى أن هجرةأبناء يعقوب كانت بداية التواجد اليهودي في مصر.
* دور اليهود المصريين في الحياة الثقافية في مصر (الصحافة والفن والأدب):
حيث أوضح المؤلف أن يهود مصر حققوا ازدهارًا ملحوظًا على المستوى الثقافي مماثل للازدهار الذي تحقق لهم خلال العصر الإسلامي في الأندلس والمغرب العربي، ويرى الكاتب أن الصحافة كانت من أهم الوسائل التي تعبر عن تطلعات الطائقة اليهودية ومشاكلها في مصر، واضعًا في اعتباره حرص الصهيونية على تجنيد وسائل الإعلام لخدمة أهدافها، وأوضح الكاتب أن الطائقة اليهودية في مصر قد تمتعت بكامل حريتها في إصدار الصحف والمجلات التي بلغت نحو خمسين صحيفة، في الفترة ما بين 1877 - 1947، منها واحد وثلاثين صحيفة باللغة العربية، وقد ساهمت هذه الصحف في تحقيق التفاهم والتعاون بين العرب واليهود مع التأكيد على ما وصفته بأنه "الحقوق التاريخية لليهود في فلسطين".
وأشار الكاتب إلى أن الصحف اليهودية إلى اكتساب القوى السياسية والاجتماعية والثقافية في مصر إلى جانب اليهود، إلا أنها ركزت اهتمامها طبقًا لتوصيات مؤتمر "بال" بخلق وعي قومي يهودي كوسيلة من وسائل منع اندماج اليهود في المجتمعات التي يعيشون فيها، وفي محاضرة تاريخية ألقاها "فيكتور نحمياس" تحت عنوان "جريدة الشمس والصحافة اليهودية في مصر من 1917 إلى 1948" أشار إلى تفوق اليهود المصريين في كافة المجالات، وأنهم كانوا يشكلون طائفة منظمة لها اهدافها وبرامجها الثقافية والاجتماعية والدينية، وأن عددهم في الخمسينات وصل إلى ما يقرب من 100000 نسمة، وأنهم تحدثوا عدة لغات، والغالبية منهم كانت تتحدث الفرنسية وأقلية كانت تتحدث العربية!
ثم تحدث عن التحول الجذري في صحافة يهود مصر بدءًا من عام 1919 عندما أسس د. ألبرت موصيري "مجلة إسرائيل" بلغات ثلاث: الفرنسية والعربية والعبرية، وقد توقفت عن الصدور بالعربية حتى عام 1934، فأصدر سعد يعقوب مالكي صحيفة جديدة بعنوان "الشمس" لتعبر عن وجهة النظر اليهودية لدى المجتمع المصري.
ويمكن القول بحسب الكاتب أن الصحف اليهودية الصادرة بمصر عقب مؤتمر بال 1897 حتى نشأة الكيان الصهيوني في فلسطين عام 1948 قد خدمت الأهداف الصهيونية بأشكال متفاوتة، ومن أهم الكتاب اليهود المصريين يعقوب صنوع الذي ولد بحارة اليهود لأسرة يهودية مصرية عام 1938، والذي أسس صحيفة "أبو نضارة ذرقا" وصدر العدد الأول منها في 21 مارس 1877 بتشجيع من الإمام محمد عبده والشيخ جمال الدين الأفغاني، وعقب نفيه أصدر مجلة جديدة بعنوان "رحلة أبو نضارة زرقا" وذلك في 7 اغسطس 1878، وكذلك صحيفة "أبو صفارة" وصحيفة "أبو زمارة" وعدة جرائد آخرها "جريدة الأمة الإسلامية" بالفرنسية، وكانت أول من استخدم الكاريكاتير بالصورة واللفظ، وقد كان صنوع متعاطفًا مع قضايا العالم الإسلامي، فقد تحمس لعرابي وظل على صلة بعرابي ومحمود سامي البارودي قي منفاهما بجزيرة سيلان عن طريق المراسلة، وكتب له عرابي بتاريخ 2 سبتمبر 1884 قائلاً (أعترف أنك كنت أول من تعاطف مع الأمة العربية لأنك كافحت من أجل قضية الأمة والحرية ثماني سنوات، "هي عمر صحف صنوع آنذاك" وقد كانت صحيفتاك الحاوي وأبو نضارة زرقا أهم عون لي في نداء الأمة ونشر أفكار الحرية بين القاصي والداني، أكرمك الله باسم الأمة).
وتوفي صنوع في اكتوبر عام 1912 ودفن بالمقبرة اليهودية في باريس.
ومن ضمن الكتاب اليهود المصريين الصحفي "ألبرت مزراحي" وكان عضوًا بنقابة الصحفيين وأصدر جريدة تسمى "التسعيرة" وهي جريدة معنية بنشر تسعيرة المواد التموينية، وتوطدت علاقته بوزير الداخلية وقتها وكان فؤاد سراج الدين الذي منحه ترخيص الجريدة، وفور صدور العدد السابع منها كان عدد المشتركين قد بلغ 14 ألفًا من التجار وأصحاب المصانع والشركات، كما اهتمت صحيفة التسعيرة بأخبار الفن خاصة الفضائح الشخصية وأخبار الجرائم المخلة بالآداب، ثم تحولت عام 1945 إلى صحيفة هزلية ساخرة، ثم عادت بعد ذلك سياسية، كما أسس مزراحي عام 1946 "وكالة مصر للصحافة" لتتولى إصدار "التسعيرة" ثم "المصباح" و"الصراحة"، وحول النشاط الصهيوني في مصر ومشكلة فلسطين ناشدت "التسعيرة" بالابتعاد عن تلك المشاكل لتظل العلاقة بين اليهود ومواطنيهم المصريين على ما هي عليه من متانة وإخلاص متبادل، إلا أن مزراحي تحول إلى أحد دعاة الصهيونية في مصر، حيث اعتقل عقب قيام ثورة يوليو 1952 وافرج عنه بعد ذلك وظل مقيمًا بمصر حتى عام 1960.
ومن أبرز الشخصيات اليهودية المصرية البارزة "مراد فرج ليشع" الذي كان محاميًا وكانت له علاقته الوثيقة بالخديوي عباس الثاني الذي وكله في قضاياه الخاصة وأصبح محاميًا للقصر، وكتب مراد فرج العديد من المؤلفات والمقالات والرسائل الفقهية والأدبية باللغة العربية منها: الشعراء العرب اليهود، ملتقى اللغتين العبرية والعربية، رسالة في الاحوال القانونية، القراءون والربانيون، المجموع في شرح الشروع وغيرها.
* يهود في تاريخ الفن:
يقول الكاتب أن حياة اليهود المصريين كانت في واقع المجتمع المصري اندماجًا وانصهارًا نسجته السنين الطوال من خلال التسامح الفطري الذي ميز الإنسان المصري عبر تاريخه، وكان يهود الحضارة الإسلامية مندمجين في نسيج هذه الحضارة لغويًا وفكريًا واجتماعيًا وسياسيًا، وقد امتد اندماج اليهود المصريين في حياة المجتمع المصري إلى الحياة السياسية وعلاقتهم القوية بالقصر والهيمنة الإقتصادية بالسيطرة على مراكز المال والتجارة متجاوزًا مجال الصحافة والأدب إلى مجال الفن خاصة السينما والمسرح والموسيقى.
ويعتبر "يعقوب صنوع" واضع أسس المسرح في مصر وأحد رواد الصحافة المصرية وفن الكاريكاتير السياسي، وقد حفظ يعقوب القرآن ودرس اللغة العربية وأدابها بجانب العبرية، وقد كوّن صنوع فرقة مسرحية وتولى التأليف والإخراج، وكان أول من قدم ممثلات على حشبة المسرح ودعاه اسماعيل باشا لتقديم عروض خاصة في سراي قصر النيل، واشتهر يعقوب بلقب "موليير مصر".
ومن أبرز اليهود المصريين المخرج الشهير "توجو مزراحي"، وهو أول من أدخل التجارة في فن السينما، وقد انتهى من تصوير فيلم "سلفني 3 جنيه" لعلي الكسار في مدة لا تتجاوز الأسبوع!!، وقد أخرج مزراحي فيلم "ليلي" بطولة ليلى مراد وحسين صدقي، وكتب فيلم "ليلة ممطرة" الذي كان فاتحة الخير للفنان يوسف وهبي بعد أن أشهر إفلاسه، كما أنتج فيلم "سلامة" عام 1947 وقام أيضًا بكتابة السيناريو الخاص بالفيلم وقام بإخراجه، وقامت بالبطولة أم كلثوم ويحيى شاهين، وغادر مزراحي مصر عام 1956 وتوفي في روما عام 1987.
وفي مجال إنتاج وتوزيع الأفلام السينمائية أسس المليونير اليهودي "جوزيف موصيري" شركة "جوزي فيلم" وامتلكت هذه الشركة ستوديو للإنتاج السينمائي بشارع الهرم، وأدارت وامتلكت عشرات دور السينما، وكانت تحتكر استيراد وبيع الافلام الخام، وكان مقرها الوحيد في 14 شارع الانتيكانة المصرية "محمود بسيوني حاليًا"، وتجدر الإشارة إلى أن 90% من دور السينما في مصر كان يمتلكها أثرياء يهود.
ومن أشهر الفنانين المصريين اليهود في ذلك الحين راقية إبراهيم ونجمة إبراهيم وإلياس مؤدب ونجوى سالم وفيكتوريا موسى وذكي مراد وداود حسني في التلحين وليلى مراد في الغناء والتمثيل.
إن هذا الكتاب مرجع وافي للباحثين عن الحقيقة فيما يخص الطائفة اليهودية المصرية، ويشير الكتاب إلى النشاط السياسي وعمليات التجسس اليهودي في مصر، والنشاط الصهيوني في مصر، والتدريب على التخابر والتدمير، ويهود الإسكندرية ومؤسساتهم الإجتماعية، والمؤسسات التي تمتلكها الطائفة اليهودية في مصر، ومصادر دراسة تاريخ يهود مصر في القرن التاسع عشر، والهيمنة الإقتصادية للطائفة اليهودية المصرية على الإقتصاد المصري في مطلع القرن التاسع عشر، وأعدادهم، وما قامت به الثورة وعبد الناصر تجاه اليهود.
إنه كتاب يستحق الدراسة ويحتاج لحلقات عديدة لبلورة ومعرفة تاريخ هذه الطائفة المصرية المهمة بما لها وما عليها، فمن الواضح أنها أسهمت في تطوير مصر وتقدمها.