كمال زاخر
اتوقف هنا مع دراسة قام بها أحد رجال الإكليروس المعاصرين، تعيد قراءة واقعة لقاء قطبى الرهبنة أو قل اثنين من مؤسسى الرهبنة، فى مصر، والعالم، الأنبا انطونيوس الذى مأسس الحياة الديرية، بعد أن استقر به المقام فى فيافى الصحراء الغربية، واستحق أن يعرف بأبى الرهبان، والأنبا بولا الذى اعتزل فى صحراء البحر الأحمر متوحداً، وظنى أنهما التقيا غير مرة، والدراسة التى نتوقف عندها تتناول لقائهما الأخير وما شهده من احداث، والمجال السياسى وقتها، فى توقيت كانت الكنيسة تشهد فيه حالة من الهدوء النسبى بعد أن اصدر الامبراطور المعاصر قسطنطين مرسوماً يعترف بالأديان الموجودة بربوع امبراطوريته، ومنها المسيحية، وقد لفت نظره جسارة المسيحيين ورباطة جأشهم، فى مواجهة موجات الإبادة التى شنتها الإمبراطورية عليهم، ولم يكن قد أعلن إيمانه بعد.
ولعل السؤال لماذا يهتم حاكم وثنى بعقد مؤتمر امبراطورى (دولى) يجمع فيه قيادات الكنيسة لتصفية ما بينهم من خلافات تخص عقيدتهم ويترأس هو هذا المؤتمر؟!، وكان من الممكن أن تجد حلاً بالحوار بين مفكرى واباء الكنيسة، ظنى أن تصعيداً متعمداً خرج بالخلاف الفكرى الطبيعى من دوائره الإقليمية والمحلية إلى الطرح العام، على مستوى الإمبراطورية، وبحضور الإمبراطور نفسه. أنه أول تسييس للكنيسة، التى ابتلعت الطُعم بل وكرسته لتقرر فيما بعد أن حضور الامبراطور أحد شروط اعتماد أية مؤتمرات مثيلة كمجمع مسكونى !!.
دعونا نقترب من مشهد افتتاح المؤتمر (المجمع) كما سجلته ادبيات الكنيسة، ورصدته الدراسة، "حسبما ورد فى سنكسار 9 هاتور اليوم الموافق انعقاد مجمع نيقية سنة 325م، حيث نقرأ أن الإمبراطور قسطنطين وضع أمام المجتمعين قضيب المُلك وسيفه قائلاً لهم، إن لكم هذا اليوم سلطان الكهنوت والمملكة لتحلوا وتربطوا كما قال السيد. فمن اردتم نفيه أو إبقاؤه فلكم ذلك"، ومن هذه اللحظة بدأت ادوات السياسة تخايل الكنيسة، فما أن يصدر المجمع قراراً بادانة أحد بتهمة الهرطقة حتى تبادر الدولة باعتقاله ونفيه.
وتقول سطور الدراسة "الذى فعله قسطنطين فى مجمع نيقية هو بروتوكول امبراطورى ثلاثى القوة؛ قانون ـ حُكم ـ تنفيذ، وهو ذو دلالة واضحة وضوح الشمس فى منتصف النهار، وهى تدشين علاقة صداقة أو تحالف بين الإمبراطورية والكنيسة، وقد بدأت ودامت تلك العلاقة أزمنة،وانقلبت إلى صدام فى أزمنة أخرى إلى أن جاء القرن السابع، فسقطت المملكة المنقسمة على نفسها بكنائسها المنقسمة هى أيضاً على نفسها، فى فم الهزات العربية مثل "أشجار تين بالبواكير إذا انهزت تسقط فى فم الآكل" (ناحوم 3 : 12)."
وكان القديس جيروم (347 ـ 419م) قد ادرك وقتها مخاطر هذا التحالف فقال "إذ ارتبطت الكنيسة بالأمراء المسيحيين إقتنت سلطاناً وغنى، ولكنها إفتقرت إلى الفضيلة".
وتنقل الدراسة عن الأب جان كمبى من كتابه "دليل إلى قراءة تاريخ الكنيسة" الصادر عن دار المشرق "أصبح المسيحيون يعترفون بأفضال الإمبراطور قسطنطين عليهم لأنه كان يهب لهم مبانى رسمية وقصوراً لتستعمل استعمالاً دينياً. كما أمر ببناء أماكن رائعة للصلاة ... وأهدى للأساقفة هدايا كبيرة ... وخُصت المحاكم الأسقفية بولاية مدنية واعتبر الأساقفة مساوين للحكام".
كانت الحُلّة (العباءة) الملكية ضمن الهدايا التى ارسلها الإمبراطور للأساقفة، ومنهم البابا اثناسيوس، ومعها كرسى مستنسخ من كرسى الإمبراطور، وهكذا صارت الكنيسة تحاكى الإمبراطورية، حتى أنها أخذت عنها التقسيم الإدارى، ففى مقابل المقاطعة جاءت الإيبارشية، وفى مقابل الأمير أو حاكم المقاطعة يأتى الأسقف، وفى مقابل الإمبراطور يأتى البابا البطريرك!!.
ترصد الدراسة اللقاء الأخير الذى تم بين القديسين انطونيوس وبولا نقلاً عن كتاب السنكسار القبطى فتذكر أنه "بعد أن جلس الأنبا أنطونيوس مع اللأنبا بولا وأخذا يتحدثان بعظائم الأمور، قال الأنبا بولا له : "والآن أسرع وأحضر لى الحُلة (العباءة) التى أعطاها قسطنطين الملك لأثناسيوس البطريرك. فمضى إلى البابا أثناسيوس وأخذها منه وعاد إليه. وفيما هو فى الطريق رأى نفس القديس بولا والملائكة صاعدين بها. ولما وصل إلى المغارة وجده قد تنيح، فقبَّله باكياً ثم كفنه بالعباءة وأخذ الثوب الليف ... وحينئذ وارى القديس انطونيوس الجسد المقدس وعاد إلى الأب البطريرك وأعلمه بذلك ... أما الثوب الليف فكان يلبسه الأب البطريرك ثلاث مرات فى السنة أثناء التقديس".
ويرى الباحث أن التفسير الذى ذهب اليه البعض ومنهم القديس جيروم، الذى سجل سيرة الأنبا بولا، أنه حين طلب من صديقه أن يذهب ويحضر العباءة اراد أن يجنبه لوعة لحظات موت ونياحة الانبا بولا، هو تفسير يصعب ترجيحه لأن الموت لم يعد كما كان قبل تجسد المسيح وموته وقيامته منتصراً على الموت.
ويؤكد الباحث أيضاً على أنه لم يكن طلب القديس بولا الرداء لتكفينه، حال موته، لتعارض ذلك مع تركه لكل مباهج الدنيا وممتلكاتها واختياره حياة التجرد والتقشف والفقر الاختيارى، وتيقنه من أن مآل
فلماذا طلب القديس بولا إذن عباءة البطريرك المهداة من الإمبراطور؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تجيب الدراسة على هذا السؤال:
["مضى القديس انطونيوس إلى البابا اثناسيوس وأخذ العباءة الملكية منه"
سمع الحكيم اثناسيوس كلمات الرسالة الصامتة، وفهم أن المشورة فى قلب الرجل (الأنبا بولا) مياه عميقة وذو الحكمة يستقيها، فسلم العباءة الملكية للأنبا انطونيوس حسبما طلب الأنبا بولا".
ـ سحب الرائى بولا من كنيسة الاسكندرية ثوباً يُظلم استنارة العقل ويغطى الرؤية قبل أن يغطى البدن
ـ سحب الثوب الناثر براعم خصال وسجايا الأباطرة فى الأذهان، تاركاً فقط ثوبه الليف. التراب هو مصير ثوب الملوك.
ـ دفنه لئلا يُكفَن به الذين اقامهم الله للحياة الجديدة.
ـ دفن فى التراب ثوب الكرامة والأبهة والعظمة الإمبراطورية فلا يصير زياً أو طقساً كنسياً.
ـ دفن مراودة ملكية ناعمة لكنيسته ستفقدها حريتها إن قبلتها.]
ويكمل الباحث هذا المشهد:
ـ طرح القديس انطونيوس ثوب الأنبا بولا الليف على البطريرك القديس تشجيعاً له على مواصلة جهاده "ضد العالم" وكأنه إيليا يطرح رداءه على اليشع مجدداً، كذلك تلقف القديس اثناسيوس رداء الأنبا بولا الليفى، مثلما فعل اليشع عندما اخذ رداء ايليا الذى سقط عنه وضرب الماء فانفلق إلى هنا وهناك فعبر اليشع، كذلك ضرب اثناسيوس بحر صداقة الملزك فانفلق أمامه وعبر "من وجه الضيق إلى رحب لا حصر فيه" (أيوب 36 : 16).
والسؤال اليوم عن خيارات الكنيسة المتأرجحة بين عباءة الإمبراطور وثوب بولا الليفى، سواء فى الغرب أو الشرق، فمازالت مظاهر وممارسات كثيرة لا تتفق مع طبيعة ورسالة الكنيسة،
ومازال تتبعنا للمشاهد الاكليروسة مستمراً، لعلنا نضع ايدينا على اسباب تراجعنا بواقعية وتبصر بعيداً عن صراعات الأجنحة.