د. أحمد الخميسي
منذ أكثر من عشرة أعوام لم تمتد يدي لفتح التلفزيون في بيتي. اكتفيت بالإذاعة. لكن مع الكحك وهيصة العيد في بيت أخواتي كان التلفزيون شغالا يعرض الفيلم القديم الممتع " الحموات الفاتنات" انتاج عام 1953، وتذكرت أن هناك فيلما آخر ظهر في نفس الاتجاه لاحقا عام 1959 هو " حماتي ملاك" بطولة اسماعيل يس وماري منيب. تناول الفيلمان شخصية " الحماة " بعد انقضاء نحو ألفي عام على طرح هذه القضية عام 140 قبل الميلاد على يد الكاتب الروماني " ترينتوس" في مسرحية له باسم " الحماة". بطبيعة الحال فإن التطور الاجتماعي قد تجاوز تلك القضية بعد أن انفكت قبضة الأسرة عن حياة أبنائها ولم يعد للوالدين ذلك التأثير، لكن السبب الرئيسي في اختفاء تلك القضية وغيرها أنها لم تجد تجسيدا في الفن، وعلى سبيل المثال فإن عددا من مسرحيات شكسبير التي تناول فيها الصراع على العرش مازالت حية رغم انقضاء زمن العروش،
وهكذا نجد أن القضية قد اختفت في الواقع ومع ذلك ظلت حية، لأن الفن أقدم على تجسيدها ببراعة واقتدار. في مصر كانت هناك طائفة من أصحاب الحنطور وصناع تلك المركبة وكانت هناك ورشة لتلك الصناعة عام 1850، وظل الحنظور منتشرا حتى عام 1905 عندما بلغ عدد السيارات في مصر مئة وعشرة وراحت تنتشر إلى أن اختفى أصحاب الحنطور، وكان اختفاؤهم مأساة انسانية. تجاوز التطور قضية أولئك البشر والحنطور، وكان من الممكن أن تظل صورهم وشخصياتهم وآلامهم لو أن كاتبا أو فنانا كبيرا جسد شيئا من أولئك البشر في أعمال فنيه، لكن ذلك لم يحدث ومن ثم ماتت القضية من غير الفن. لم يرصد أحد لنا مأساة المغني الشعبي وقد نفاه بعيدا التطور ودخول الراديو، سوى نجيب محفوظ في مشهد عابر في مطلع روايته " زقاق المدق " حين يضع المعلم " كرشة " الراديو – وكان اختراعا حديثا – في المقهى ويطرد المغني الشعبي صاحب الربابة. كان ذلك المشهد تسجيلا لمأساة عدد كبير من الرواة الشعبيين الفنانين، أزاحهم التطور إلى الخلف، لكنهم اختفوا ليس بفعل التطور فحسب، بل لأن أحدا لم يجسد شخصياتهم، ولم يكتبها، ولم يعيد خلق مآسيهم، فاختفت القضية من غير الفن. وكان من الممكن أن تختفي قضية سطوة الرجل العائلية مع التطور لولا شخصية " سي السيد " التي خلقها نجيب محفوظ في " الثلاثية "،
وبالفن عاشت القضية، وظل السؤال يتردد. الواضح أن كثيرا من القضايا تذبل وتموت إذا لم يوليها الفن اهتمامه، ولم يمر عليها بلمسته السحرية التي تطيل في أعمارها، وتمد في حياتها. وحده الفن يمنح القضية حياة أخرى، وإذا لم يوليها اهتمامه اختفت تحت عجلات التطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، ولكي تظل القضية، أي قضية، حية، لابد أن تتجسد في " شخصية " نحس أنفاسها ونقاسمها آمالها وأحزانها، لذلك نحن نقف بانبهار أمام التماثيل الفرعونية، لكن يطل في داخلنا السؤال : " من أنتم؟ "، لأن فن الكلمة لم يقدم لنا شخصية حية من قدماء المصريين، نشعر بعذابها وطموحها ، وبقوتها وضعفها. يبقى الفن الاختراع الأعظم ضد النسيان، والاختراع الأعظم الذي يقف في مجرى الزمن، يلتقط لحظاته، ثم يرفعها عاليا عبر العصور.
وهكذا نجد أن القضية قد اختفت في الواقع ومع ذلك ظلت حية، لأن الفن أقدم على تجسيدها ببراعة واقتدار. في مصر كانت هناك طائفة من أصحاب الحنطور وصناع تلك المركبة وكانت هناك ورشة لتلك الصناعة عام 1850، وظل الحنظور منتشرا حتى عام 1905 عندما بلغ عدد السيارات في مصر مئة وعشرة وراحت تنتشر إلى أن اختفى أصحاب الحنطور، وكان اختفاؤهم مأساة انسانية. تجاوز التطور قضية أولئك البشر والحنطور، وكان من الممكن أن تظل صورهم وشخصياتهم وآلامهم لو أن كاتبا أو فنانا كبيرا جسد شيئا من أولئك البشر في أعمال فنيه، لكن ذلك لم يحدث ومن ثم ماتت القضية من غير الفن. لم يرصد أحد لنا مأساة المغني الشعبي وقد نفاه بعيدا التطور ودخول الراديو، سوى نجيب محفوظ في مشهد عابر في مطلع روايته " زقاق المدق " حين يضع المعلم " كرشة " الراديو – وكان اختراعا حديثا – في المقهى ويطرد المغني الشعبي صاحب الربابة. كان ذلك المشهد تسجيلا لمأساة عدد كبير من الرواة الشعبيين الفنانين، أزاحهم التطور إلى الخلف، لكنهم اختفوا ليس بفعل التطور فحسب، بل لأن أحدا لم يجسد شخصياتهم، ولم يكتبها، ولم يعيد خلق مآسيهم، فاختفت القضية من غير الفن. وكان من الممكن أن تختفي قضية سطوة الرجل العائلية مع التطور لولا شخصية " سي السيد " التي خلقها نجيب محفوظ في " الثلاثية "،
وبالفن عاشت القضية، وظل السؤال يتردد. الواضح أن كثيرا من القضايا تذبل وتموت إذا لم يوليها الفن اهتمامه، ولم يمر عليها بلمسته السحرية التي تطيل في أعمارها، وتمد في حياتها. وحده الفن يمنح القضية حياة أخرى، وإذا لم يوليها اهتمامه اختفت تحت عجلات التطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، ولكي تظل القضية، أي قضية، حية، لابد أن تتجسد في " شخصية " نحس أنفاسها ونقاسمها آمالها وأحزانها، لذلك نحن نقف بانبهار أمام التماثيل الفرعونية، لكن يطل في داخلنا السؤال : " من أنتم؟ "، لأن فن الكلمة لم يقدم لنا شخصية حية من قدماء المصريين، نشعر بعذابها وطموحها ، وبقوتها وضعفها. يبقى الفن الاختراع الأعظم ضد النسيان، والاختراع الأعظم الذي يقف في مجرى الزمن، يلتقط لحظاته، ثم يرفعها عاليا عبر العصور.
د. أحمد الخميسي. قاص وكاتب صحفي مصري