د. أحـمـد الـخـمـيـســي
يقول الروائي المعروف ميلان كونديرا في حوار معه بمجلة " باريس ريفيو" إن الرواية الحديثة هجرت المرئي للأفعال، أي أنها شبعت من وصف العالم والشخصيات من الخارج، لذلك لم تعد الشخصية الروائية محاكاة لكائن حي محدد، بل خلق كائن خيالي، وبذلك تعيد الرواية تواصلها مع بداياتها حينما كانت شخصية " دون كيخوت" خلقا فنيا وليس تجسيدا لكائن واقعي محدد. ولهذا كله انتقلت الرواية الحديثة بثقلها الى عالم الانسان الداخلي، ثم إلى أحلام اليقظة، ثم إلى التسليم بوجود العالم الخارجي الطاغي حيث يتساوى فيه أن تكون لك إرادة أو ذكريات من عدمه. خلال ذلك يؤكد كونديرا أن الرواية التي لا تكتشف قطعة مجهولة من الحياة رواية بلا معنى، لأن المعرفة تظل الفضيلة الوحيدة للرواية عبر تاريخها، وهذا ما قدمه إلينا بلزاك وديكنز وكل الكتاب العظام، أيضا فإن الشغف بالمعرفة هو سر العمل الفني القادر على حماية الحياة من" النسيان"، وحسب تعبير كونديرا فإن الرواية " تفجير للخيال في الفضاء". ولاشك أن لملاحظات كونديرا السابقة أهمية خاصة لكن ذلك لا يجعلنا نتغافل عن ملاحظاته الأخرى التي تحتاج لمراجعة، وعلى سبيل المثال فإن كونديرا يحسب أن الرواية ابتداع أوروبي بحت، وأن اكتشافاتها تنتسب إلى الفكر الأوروبي، متجاهلا تماما مساهمة الحضارات الشرقية، لذلك فإنه حين يشير إلى حكايات الديكاميرون فإنه لا يتذكر ولا يذكر أنها تنويع على حكايات ألف ليلة وليلة. ومن المستغرب بدون شك أن يلح كونديرا على أن الرواية " ابتداع أوروبي" ، بينما الطابع " الأوروبي" في تاريخ الرواية نقطة في رحلة تطور الرواية.
وتمتد قراءة كونديرا الذاتية هذه إلى قضايا أخرى تاريخية من نوع حديثه عن " العداء العام للسامية" على أساس أن ذلك العداء أمر مسلم به وليس بالونة من الأكاذيب، وربما بسبب تلك الرؤى حصل كونديرا على جائزة " القدس " التي منحتها له إسرائيل وأعرب عن فرحته الكبيرة بها مدعيا أن " إسرائيل قلب أوروبا الحقيقي"، وأن اليهود - بعد أن خذلتهم أوروبا بطريقة مأساوية - قد استعادوا وطنهم الصغير! ويذكرنا كل ذلك بما أشار إليه كونديرا من أن مرض العصر الراهن هو : " الاجابات السهلة السريعة الأسرع من الأسئلة "، ذلك أن الروائي الكبير نفسه مصاب بنفس العلة، وأنه يسلم نفسه بمنتهى السلاسة للاجابات السريعة عن الأسئلة التي تحتاج إلى التأمل. هناك بطبيعة الحال قضايا كثيرة مركبة في عصرنا، لكن أي كاتب نزيه سيتردد قبل أن يقدم اجابات حاسمة، وقد يقول لنفسه : " إنني أعرف القليل بشأن تلك القضية، لذلك لا ينبغي على التعجل باصدار حكم عليها"، لكن حين يتطوع الروائي بآراء وأحكام مجانية فإن ذلك إشارة إلى أنه يفتقد الرؤية الفكرية. ونحن – على سبيل المثال - قد لا نعرف الكثير عن الكفاح الأيرلندي ضد بريطانيا، لكن ذلك لا يعني الانزلاق إلي موقف قبل أن نتبين أبعاد القضية ، فإذا لم نستطع فلنصمت. وتبدو رؤية كونديرا الفكرية المتخبطة للتاريخ حين يحسب أن الحروب تشتعل بلا دوافع خاصة سوى أن القوة الغاشمة تختار ما تختاره! وللأسف فقد عرف تاريخ الأدب كتابا موهوبين لكن بلا رؤية فكرية، الأمر الذي عاقهم عن التحليق إلى أرفع درجات الفن هناك حيث يستقر ديكنز وتولستوي وجوته وغيرهم.
نقلا عن جريدة الدستور