سيادة المطران جورج خضر
الكلامُ في ذات الله غير واردٍ في المسيحية الشرقيّة، إذ يقول عنه كل تراثها إنه فائق الجوهر وغير قابل للإدراك، وإدراكه هو الوصول إلى جوهره، وإذا وصلت إلى هذا تصيره، فيختلط الخالق بالمخلوق، وهذا محال، ومع هذا ينبغي أن تتصل، فإذا انتفى هذا تنتفي الربوبيّة، فبلا تواصلٍ الربُ ربَّ من يكون.
قبل أن نصل إلى التوحيد يجعل أفلاطون الإله “فكرة الأفكار”، فيجعل لكل موجودٍ مثالاً أو فكرةً في “السماء”، ويأتي الله جامعاً لهذه الفِكَر أو ذروتها.
أمَّا عند تلميذه أرسطو، فالله هو علّة العلل، ولكنه لا يتحرّك.
التوحيد العبري ينقلنا إلى جو آخر يعبّر عنه قول سفر الخروج: “قال موسى لله: ها أنا ذاهب إلى بني إسرائيل فأقول لهم: إله آبائكم أرسلني إليكم فإن قالوا ما اسمه. فماذا أقول لهم؟” (خروج 3: 13). فقال الله لموسى. أنا يهوه. في الترجمة اليونانية: “أنا الكائن”. أعود إلى الأصل العبري؛ لأن يهوه (الاسم الذي اتخذه الله) فعلٌ مضارعٌ، وليس اسماً، ويعني “أنا هو من هو”، أو أيضا: “أنا هو من سأكون”، أي أنه يعرّف عن نفسه بالحركة في شعبه. هذا ليس تعريفا للذات، ولكن للعمل الإلهي. بهذا المعنى قال الله لإبراهيم: “وأقيم عهدًا بيني وبينك… فأكون لك إلهًا” (تكوين 17: 17). ليس هذا كلاماً عن الذات القائمة في جوهرها. إنه حديثٌ عن مرافقة الله لإبراهيم ضمن العهد، في هذا السياق “فأكون لهم إلهًا ويكونون لي شعبًا” (ارميا 7: 23). وأمثال ذلك في حزقيال ولوقا والأعمال، والمراد بما ورد في ارميا إن كينونتي لكم إلهاً إني التفت إليكم اليوم وغداً، وإذا عرفتموني إلهاً لكم تصيرون لي. أي كما أنا متحركٌ إليكم بعنايتي ورفقي وحناني، تصيرون أنتم متحركين نحوي بالطاعة. وحدكم بلا إله عاطف، أنتم مجرّد جمهور بالمعنى المجتمعي، ككل جمهور آخر، وليس لكم كيان إلاَّ برحمتي.
في عبارة شعب الله، المضاف إليه الله. الله يُعرف في علاقته ولا يُعرف في ذاته. كل هذا يتكرّر بعبارات مثل إله إبراهيم واسحق ويعقوب أو إله إسرائيل أو إله الجنود أو إله آبائنا.
في سلوك الله مع شعبه تُفهم صفات الرب (بار، عادل، مقتدر، راعٍ، عريس، أب، أم). كلُ شيءٍ يقوم به الله علاقة. حتى صفة “الخالقية” صفة علاقة، إذ يفتتح سفر التكوين بقوله: “في البدء خلق الله السماوات والأرض”. لعلّ من أفصح ما قيل عن الله إنه “أبو ربّنا يسوع المسيح” (أفسس 1: 3 و2 كورنثوس 1: 3). هذا تعريفٌ حركيٌ أيضاً.
هنا نواجه ما يمكن اعتباره لأول وهلةٍ وصفًا لله، وهو قوله: “الله محبة”. في رسالة يوحنا الأولى الجامعة بعد أن يقول: “المحبة من الله سيقول: الله محبة” (4: 😎.
زعمي أن المحبة ليست صفةً من صفات الله. هي اسمه. هي إياه. إنها تعطي مضموناً لكلمة “الله”، وتعبِّر عن حركته بالمسيح وبالقداسة.
المحبة هي البداءة في الآب التي منها جاء الابن والروح القدس. الآب هو الكائن قبل الأزل، وهو مع ابنه وروحه في وحدانية هي المحبة. والوحدانية عمق الإله وليست رقماً ولا يقع عليها الحساب. المحبة هي الوحدانية المتحرّكة التي تحيي البشر، والله لصيقٌ بالبشر منذ خلقهم، وهم به يقومون إذا أحبوه من جهةٍ، وأحبوا بعضهم بعضاً. فإذا سكنوا فيها يكونون ساكنين في الله، فلا يعوزهم إلاَّ أن تسكنهم ويسكنوا إليها، فتزول الهوّة بين السماء والأرض.
ولكون المحبة كاملةٌ؛ يلغي الله الآلهة الكاذبة التي اصطنعتها شهوات الإنسان. وهذه هي الصنميّة بالذات: أنك تعتمد شهواتك مصادر للحياة، فتصبح أوثاناً قتالةً، فتقول مع نيتشه “الله مات”، وهو الحيّ القيّوم الذي يحيي الوجود.
لكن حياة الله المتجددة فيك تقتضي أن تحارب الآلهة الكاذبة التي قبلت أنت أن تتكون منها وهي تزرع الموت الروحي فيك لأنها تمنعك عن المحبة.
هذه، إذا ذقتها حقا تصبح عشير الله. نحن في معاشرته في الكلمة التي ينطق بها فينا، فنصبح إياها وتصبح إيانا، فإذا بمعاشرتنا الله نغدو روحاً واحداً معه كما يقول بولس، ولا نبقى مشتهين لغير وجهه، هذا الذي ما تقناه ترتسم علينا أنواره.
إذا فهمت أنت ذلك تبطل الصفات الكاذبة التي نسبتها الأجيال إلى الله عن طبيعة سلوكه مع شعبه، وتبدأ بفهم المحبة النازلة عليك، وتنفي عن الله كل ما يناقضه. لا تبقى أسير كلماتٍ مألوفةٍ تُنتج فيك الموت الروحي. لا تنظر إلى الله معاقباً كشرطي أو باعثاً إليك بأمراضٍ، أو قاتلاً إياك بحادثة على الطريق.
أنت تموت بسبب من الخوف. والخوف يجعل الله عدوّ الحياة. الحياة في معناها الجسدي والروحي هبة من الله، ليس فقط منذ خلقه إيانا، ولكن باستمرار محبته جيلاً بعد جيل.
إلى هذا ليس الرب ما يصوّره الإنسان. هو يصوّر الإنسان. ولذلك الخطأ في أن نرى إلى صفات البشر السيئة ونعكسها على الله كإرادة الموت. أنا اعرف ناساً ينسبون إليه تصميمُ أذىً حلَّ بهذا أو ذاك. الله لا يؤذي أحداً، ولا يُدخِل جرثومةً في إنسان. كل ما يصدر عنه خير وصلاح وحق وإحسان.
الربُ نقيٌ ويجب أن تنقّي عقلك من كل ما يسيء إلى إقبالك عليه؛ لأنك لا تكون قد استمتعت بالمحبة التي تنزل عليك منه.
كلّ ما عدا المحبة مملكة الخطيئة، “وأجرة الخطيئة هي موت”. أقصِِ عنك الموت بالمحبة لتصير ابناً للنور، فالمحبة وحدها ترميك على النور.
قرّر صادقًا ألاَّ يصدر عنك ما يحرج المحبة فيك وفي الآخرين. هذا هو الضياء كله. بعد هذا لا تسأل عن تعبٍ يدهمك، أو عن تجربةٍ تغريك. المحبة تغسل كلّ السيئات الصادرة عن الفساد الذي يحيط بك وعن الفاسدين.
أحبب هؤلاء أيضاً واغفر لهم لأنهم إذا ذاقوا الحب الإلهي المعطى لهم منك يكتشفون شيئاً لم يحلموا به من قبل. هناك إمكان لإنسانية جديدة ينزل أهلها بيننا من السماء.
المطران جورج خضر – النهار – 21/1/2012