كمال زاخر
اشمعنى ابنك؟!!
شد ابى رحاله من قريته الصغيرة القابعة فى حضن الجبل، هناك عند الخط الفاصل بين اسيوط التى تنتمى اليها قريته وسوهاج المتاخمة، قاصداً "مصر"،  اسم القاهرة وقتها فى ثلاثينيات القرن الماضى، معه اسرته الصغيرة، زوجته الفتاة او الصبية ابنة صراف الناحية، وطفله الذى يطرق ابواب سنته الخامسة، يرافقه حلم العمل والأمل فى حياة افضل. اصطحب معه اصرار لا يلين، ومنظومة قيم زرعتها فيه أمه عبر طفولته وصباه وسني شبابه، وحروفه التى تعلمها في كتّاب القرية، لم يتوقف عن ترديد اهازيجه الشجية التى حفظها فى أروقة كنيسة القرية المنحوتة في صخور الجبل، التى شكلت ملامح وجهه الجاد وكأنه استنسخ من تلك الوجوه التي تحملها جدران المعابد.

تجري به الأيام حتي يستقر في حى القللى، ويشب الفتى عن الطوق، ويتفوق فى دراسته ويلتحق بمدرسة التوفيقية بشبرا، ومنها إلى كلية طب القصر العينى، فيما ينجح والده في سعيه وتتوسع تجارته وتتنوع فيؤجر محلاً بوكالة البلح بجوار محلاته بالقللي، فى عمارته التى بناها هناك.

 عاد يوماً الى بيته ليجد "أم أيوب"، زوجته، على غير طبيعتها، شئ ما يكدرها، يلح فى السؤال، فتخبره ان أيوب ولأول مرة "يرفع صوته عليها"، كانت خمسينيات القرن تننتصف، ولم يكن هناك ما يستدعى تمرد الشاب على معيشته، وهو بعد مازال طالباً بكليته.

ادرك الأب أن شيئاً ما يدور فى ذهن ابنه، فى الصباح يستدعيه، "عارف مكان عمك متى بجزيرة بدران" يجيب أيوب "أيوه" ، يستطرد الأب "تاخد العربية (الكارو) وتروح تجيب من عنده شوالين درة عويجة، ومثلهما فول تدميس وتيجى" ، وتوديهم محل العلافة بشارع جعفر، لم ينبس أيوب ببنت شفة، ذهب ليخرج العربة مذعنا متهيئاً لتنفيذ تعليمات ابيه.

كانت أم أيوب تتابع الحكاية من البلكونة فى الدور الأول فوق المحل الثاني حيث دار الحوار، هالها ان يجر ابنها العربة، وهو على مشارف التخرج في كليته، ماذا لو صادفه زميل أو زميلة، وماذا يقول الجيران، أي "كسرة نفس" التى ستصيب ابنها؟، لكنها لا تملك ان تخالف أوامر الرجل الصارم، سارعت بالنداء على احد العاملين في المحل، "تنزل حالاً وتنتظر ايوب على ناصية شارع حنا خليل - وهو الشارع التالى لشارعنا وفيه ينحرف الشارع العمومى فيتوارى عن الانظار - وتاخد العربية من ابن عمك وتذهب معه لعمك متى وتعود معه حتى ذاك الشارع ليجرها حتى محلنا".  هكذا اوجدت أم ايوب حلاً يحفظ بقدر كبير ماء وجه ابنها ولا تغضب زوجهاا.

لكن الصدمة لم تفارق أيوب، وراح يحاول أن يفسر لماذا يعامله أبوه هكذا؟ ولكنه لا يستطيع أن يسأله.

فى المساء تلتئم الأسرة حول مائدة الطعام، ويسأل الاب ابنه،" ايه رأيك تكمل معايا شغل فى المحل؟" وسيبك م العلام، "ليه وازاى؟"، "ما هو العلام زي قلته، متعلمتش ازاى تكلم أمك، وتحترمها".

ولم يُتح له فرصة للتبرير وسأله مباغتاً مين اللي ملا مخك ودفعك لهذا؟"، فإذا بدموع أيوب تسبق كلماته؛" عم فلان، قال لى كيف يعاملك ابوك بغير ما يتوجب عليه وانت الوحيد ف العيلة اللى دخلت كلية الطب"، في وقت كان من يحمل التوجيهية يشار له بالبنان، كيف وكيف وكيف، حتى أوغر صدر الشاب. لكنه لا يملك ولا بقدر على مواجهة ابيه، فترجم تمرده فى وجه أمه.

" نحن يا ابنى لا نملك إلا العمل، ولا بديل عن النجاح فيه، وعم فلان هذا، ابتلعته نداهة المدينة، فغير جلبابه الى بدله، وأهمل تربية اولاده رغم انه نال قسطاً من التعليم لم يتوفر لي، فحركته الغيرة لتلحق بأبناءه" انتبه يا ولدى.

قصد الأب فى اليوم التالى محله بوكالة البلح، وفى الطريق عرج على محل عم فلان هذا، وفى كلمات قليلة حسم الأمر معه، بأن يترك أولاده وشأنهم ويهتم بتصحيح وضع بيته، ويراجع حاله ويطبق ما يملأ به الدنيا وعظاً وتعليماً حتي خال الناس أنه سيصعد حياً.