المهندس باسل قس نصر الله
زوجة عمي "نهى صليبا - قس نصر الله" بقيت في حلب خلال سنوات الحرب، وعانت كثيراً خلال قذف ما دَرَجَت تسميته "جرّة" او "قاظان" - مملوءة بالمتفجرات - على الكثير من أحياء حلب.
طبعاً كان القذف والردّ عليه هو السِمة البارزة لكل الصراعات المُسلّحة ومنها ما حَدَث في سورية، وفي "حلب" تحديداً، حيث انقَسَمَت المدينة إلى قسمين متصارِعين، بينهما الحدود وهي الأحياء الواقعة على خطِّ الجبهة، ولكنها ليست الجبهة التي تعلمّناها في صِغرنا والمُطلّة على "إسرائيل"، بل أن هذه الجبهة هي بين أبناء الوطن الواحد والمدينة الواحدة، وأستطيع القول أنها كانَت أحياناً بين أفراد العائلة الواحدة.
بعد إنتهاء الصراع بين القسمين ضمن تسويةٍ معيّنة، غادرت بها الأطراف المسلحة ذات المشارب السياسية المتعددة المُغَلّفة بالدين، عادت مدينة "حلب" موحّدة وانتهت معاناة أهاليها من القذائف التي كانت تتساقط على بيوتها وشوارعها ومارّتها.
توفي عمي وله إبناً "سعد" وإبنة "مهى"، وقد سافر الإبن منذ ما يقارب الأربعين سنة إلى فرنسا للتخصص، وتزوّج وبقي هناك. وكان دائم الاتصال مع والدته وأخته التي بقيت في حلب حتى بداية الأزمة ثم غادرت حلب إلى المهجر.
بقيت زوجة عمي لوحدها في "حلب"، حتى خروج الأطراف المسلحة منها، وكانت تمارس كل الطقوس الحلبية الصباحية المعتادة، من شرب فنجان القهوة لوحدها أو مع الجيران، وسقاية "الزرعات".
أقنعها ابن عمي - بعد جهد جهيد - أن تزوره في فرنسا لمدة ترتاح بها من الضغط التي مورس على الجميع من خِلال القذائف وقطع المياة والأطعمة والندرة في كل شيء، فاقتنعت واتصلت بي.
في كلِّ المدن وفي كل البيوت التي تتصف بالعلاقة الدافئة بين الجيران - ومدينتي "حلب" منها - عندما يريد الساكنين أن يغادروا المنزل لمدّة من الزمن، يتوجهون الى جيرانهم طالبين إليهم أن يقوموا بسقاية "الزرعات" وهذه الزرعات عبارة عن أصُصِ من الياسمين والفل وغيرها من "الزرعات" الخضراء التي تضيف حياة وهي ضرورية عند ممارسة "شرب القهوة" فلا بدّ أن "نأصف" أي نتفرج على هذه الزرعات.
طلبت مني بلهجتها أن لا أنسى سقاية "الزرعات" حتى تعود وتركت أموراً أساسية على طاولة المطبخ لأنها ستحتاجها عند عودتها التي لن تتأخر.
سافرَت وهناك كان من المنطق أن تبقى مع ابن عمي الوحيد، وأن يقنعها بعدم عودتها، وهو ما كان وها هو العام الخامس يمرّ، وهي هناك وأنا لا أسقي "الزرعات".
أرسلت لي منذ فترة برسالةٍ صوتيةٍ أبكتني بها، وهي تعلم تماماً أنها لن تشرب القهوة على البلكون، وتنادي علي - عندما تلمحني بالصدفة - أن أصعد لأشرب معها القهوة.
زرعاتك يا ست "نهى" يبِسَت.
وجيرانك توزّعوا أيضاً في العالم.
وجرس الكنيسة بجوار المنزل ما زال يُقرع ولكن لأجل ابناءٍ هاجروا.
ومفتاح منزلكِ ما زال لدي يُذكّرني بكلماتك: "باسل إسقِ الزرعات حتى أعود من السفر"
اللهم اشهد اني بلّغت