د. سـامـح فــوزى
فى أوج الشيوعية، عندما كانت الكنائس تٌغلق وتٌهدم، وتصادر الدولة السوفيتية ممتلكاتها، عمّدت والدة فلاديمير بوتين ابنها الصغير سرًا، وأعطته صليبًا ليرتديه. وعندما نفضت روسيا الشيوعية عن كاهلها، وأصبح بوتين رئيسا لها، عادت إلى المسيحية، ووجد الرئيس «المتدين» فى الكنيسة الأرثوذكسية الروسية وعاءً مهمًا لاحتضان الروح القومية، فأعاد لها أملاكها، وبنى آلاف الكنائس، وعادت الكنائس الروسية فى المهجر إلى حضن الكنيسة الأم، وصارت الكنيسة الأرثوذكسية ـــ فى رأى بوتين ـــ أساسًا للحفاظ على القيم الأخلاقية للمجتمع، تمامًا مثل السلاح النووى الذى يحافظ على الأمن القومى الروسى حسب تصريح له 2007. لم يكن مستغربًا أن يصف بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية الروسية كيريل الأول 2012 رئاسة بوتين لروسيا بأنها معجزة إلهية، فقد ولد البطريرك 1946، وقت أن خرج الاتحاد السوفيتى منتصرًا فى الحرب العالمية الثانية، يهيمن على شرق أوروبا، ويمتد بتأثيراته المعادية للدين إلى دول العالم الثالث، وهو يكبر بوتين بستة أعوام، وكلاهما من مواليد مدينة سان بطرسبرج العريقة.
جمع الرجلان البحث عن مجد القومية الروسية، ولم تكن الأرثوذكسية مجرد عقيدة، بل أساسًا لها، وعنوانًا لتاريخها البعيد. ويرتبط الشعب الروسى بالكنيسة، إذ حسب استطلاع للرأى 2015 أعتبر الروس الأرثوذكسية أساسًا للهوية بنسبة 71% من الذين شملهم الاستطلاع، وذكر 57% أن الإيمان ركن أصيل فى حياتهم. لم يكن ممكنا أن تكون الكنيسة الأرثوذكسية الروسية خارج مشهد الحرب المستعرة فى أوكرانيا، نفس الموقف تقريبا واجهته الكنيسة الأرثوذكسية الاثيوبية عندما شن آبى أحمد حرب إبادة فى تيجراى، فالمحاربون على الجبهتين لهما نفس الصلات الإيمانية، ولكن الوضع مختلف، حيث منعت الحكومة مرات عدة بطريرك الكنيسة أبونا متياس، الذى نشأ فى تيجراى، من التعبير عن رأيه، واستطاع أن يصل صوته إلى العالم عبر فيديو مسرب وصف فيه الحرب بأنها وحشية، وبالرغم من ذلك مضت الكنيسة الأرثوذكسية فى تيجراى على طريق الانفصال. الوضع فى روسيا مختلف بعض الشيء. فقد صمت البطريرك «كيريل الأول» بعض الوقت، ثم تحدث عن الوضع فى أوكرانيا. لم يصفه بالحرب، لكن اعتبره أحداثا وأعمالا عسكرية، تخوضها بلاده ليس لاعتبارات مادية، ولكن لغايات روحية، من أجل الخلاص الأبدي" للمؤمنين.
وقد انطلق موقف بطريرك موسكو على مستويين: الأول التأكيد على شراكة التاريخ والإيمان بين روسيا وأوكرانيا، والثانى تأكيد أن أوكرانيا تقع تحت تأثيرات غربية تختلف عن القيم الأرثوذكسية، وهكذا، فإن المواجهة بين روسيا والغرب عسكريًا وسياسيًا ترافقها مواجهة أخلاقية وإيمانية.
واجه البطريرك كيريل الأول معارضة على مستويات عدة. فقد مضت الكنيسة الأرثوذكسية المستقلة لأوكرانيا على طريق الانفصال عن الكنيسة الأم فى روسيا الذى بدأته 2019 (تتبعها حاليا ثلث كنائس أوكرانيا)، ووجدت اعترافًا من بطريرك القسطنطينية فى تركيا برثلماوس الأول، وهو منصب رمزى روحى شرفى، وهو على خلاف شديد مع موسكو منذ سنوات بسبب هذا الأمر. ويبدو أن التاريخ يداعب بذكرياته الخيال.
إذ بعد أن سقطت القسطنطينية على يد العثمانيين فى القرن الخامس عشر، قدمت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية نفسها بوصفها حاضنة المؤمنين فى العالم، والآن، تعود الأضواء إلى كرسى القسطنطينية الذى تبحث كنائس انفصلت عن الكنيسة الأرثوذكسية الروسية عن اعتراف منه مثل كنيسة أمستردام بهولندا التى أعلنت ذلك بعد اندلاع الحرب فى أوكرانيا، وقد تتبعها كنائس أخرى تابعة للكنيسة الروسية فى المهجر. ولا يزال داخل أوكرانيا كنائس تتبع الكنيسة الأرثوذكسية الأم فى موسكو، عبرت هى الأخرى عن رفضها للتدخل الروسى لبلادها خلافًا لموقف البطريرك كيريل الأول، وهناك قساوسة أرثوذكس يشاركونهم نفس الرأى فى الجزء الشمالى الشرقى من أوكرانيا (الخاضع لتأثير روسيا) بل هناك أصوات كنسية معارضة داخل روسيا ذاتها. وهكذا يمضى جدل الدين والحرب فى أوكرانيا. وحتى لا يلتبس الأمر على القارئ، فإن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية ـ كرسى القديس مرقص فى مصر وبلاد المهجر ـ لها نسق إيمانى، وطقسى، ومؤسسى مختلف، ولها هويتها وذاتيتها المنفصلة، وهى ليست طرفًا فى التحولات التى نتحدث عنها.
نقلا عن الأهـرام