محمود العلايلي
يختلف مفهوم الريف مقارنة بالمدن فى أغلب أنحاء العالم مع وضع الفوارق بين الدول المختلفة فى الاعتبار، ولكن كلما تقدمت الدول قلّت الاختلافات، التى ظل الريف محتفظًا بالكثير منها عن المدن، وأهمها بساطة الناس وبساطة الحياة من حيث غلبة العادات والتقاليد المحلية على النظم والقوانين سواء فى تعامل الناس بعضهم بعضًا، أو تعامل الناس مع الفضاء العام سواء فى المرور أو الزراعة أو تربية الماشية والدواجن أو أى أنشطة إنسانية جماعية كالأفراح أو المآتم، ولا يُعد ذلك تفضيلًا لحياة المدن عن الريف بقدر ما هو اختلاف فى أسلوب الحياة، التى تتسع فيها الهوة جدًا بين الريف والمدينة فى الدول النامية وبين المدن التى توصف بالكبيرة فى المحافظات وبين العاصمة كما هو الحال فى مصر.

مما يجعل الريف طاردًا للسكان بشكل مؤقت لهؤلاء الذين يبحثون عن العلاج أو الترفيه مثلًا، أو بشكل دائم للذين يبحثون لأنفسهم عن أسلوب أفضل للحياة من حيث التعليم والعمل والمعيشة، وهى الهجرات التى زادت خلال القرن الماضى ومازالت من الأرياف إلى القاهرة فى المقام الأول ثم عواصم المحافظات فى المقام الثانى، وذلك لسهولة المواصلات والانفتاح على تلك المدن من خلال الإعلام والسينما، وتُعد الهجرة الداخلية هى الخيار الثانى بداية من سبعينيات القرن الماضى، بعد استنفاد فرص السفر إلى الدول العربية التى تمنح هؤلاء المهاجرين فرصة الربح والادخار.

والحقيقة أن المقارنة بين تأثر وتأثير المهاجرين- وخاصة عمال المعمار والحراسة والنظافة- بالمدينة فى الدول العربية وبين تأثرهم وتأثيرهم فى القاهرة وعواصم المحافظات جدير بالاهتمام والإشارة لأن هذه الدول العربية الجاذبة للمهاجرين قد استعدت لاستقبالهم بكافة أنواع القوانين المنظمة والأحكام الرادعة لأى خروج على القانون، بل إن بعضها قد سنّ قوانين خاصة للمهاجرين- المؤقتين- مما جعل لهؤلاء حيزًا ضيقًا جدًا من التصرفات العفوية أو حتى الممارسات التى تتسم بالخروج غير المؤذى على القواعد والقوانين، والجدير بالإشارة أنهم صاروا يتبعون القانون المحلى الصارم بإعجاب ينقلونه إلى أصحابهم وأقاربهم عندما يعودون متندرين أو معجبين بطرق تطبيق القانون وإنفاذه.

أما تلك الفئات من المهاجرين الداخليين إلى القاهرة وعواصم المحافظات الكبرى فيأتون بخصلتين يساعدهم فيهما المناخ العام، أولاهما هو الاستكبار على القانون والشعور بأن اتباع النظام نوع من الضعف والخنوع، بينما عدم تطبيقه أنواع من الشجاعة والمفهومية، والخصلة الأخرى هى الاستنصاح على القواعد والإصرار على الالتفاف عليها بفخر بين المحيطين الذين يتبعون نفس الأساليب، وسط جماعات تُعلى من شأن الأكثر التفافًا واختراقًا للقانون والقواعد.

وبالذات فيما يتعلق بالسلوك فى الفضاء العام حين يندمج المهاجرون مع العشوائيين لنرى ما نجده فى المواقف العامة والطرق من «صفر» فى اتباع قواعد المرور والسير، وما نراه فى الأسواق العشوائية دون أى اعتبار لحقوق المشاة أو السيارات أو المحال المجاورة المُحمَّلة بأعباء المرافق والضرائب، بالإضافة إلى المشاة منهم الذين لا يحترمون غيرهم من المشاة ولا السيارات بالطبع، بالإضافة إلى اعتبارهم الشوارع مكانًا لإلقاء القاذورات والمهملات.

إن ما سبق لا يعنى أن كل أصحاب الأصول المدنية من المتحضرين أو الأعلى قدرًا بين المواطنين، ولكن المقصود أن هذه الهجرة التى لم يتم الاستعداد لها سواء بالبنية التحتية المُعَدّة لتلك الأعداد أو بالقدرة على تطبيق القوانين على السكان أو المهاجرين القادمين قد أدت إلى فوضى عارمة فى الشارع يتنافس فيها الجميع على اختراق القانون، فى ظل مزيج خطير من البسطاء والعشوائيين احتلوا الفضاء العام حتى صارت تصرفاتهم حقوقًا مكتسبة لدى القائمين على إنفاذ القانون بحكم الاستسهال والتعود، أو بحكم عدم القدرة على تدارك الموجات العالية المتوالية من أخلاقيات اختراق القانون والالتفاف حوله.
نقلا عن المصري اليوم