سعد الدين ابراهيم
فى أحد مقالاته البحثية الثاقبة، يتساءل شاعرنا المُفكر الكبير أحمد عبدالمعطى حجازى عن جذور النهضة المصرية الحديثة، والتى يؤرخ لها الكثيرون بالحدثين الكبيرين اللذين أيقظا مصر والمصريين، وهما حملة نابليون بونابرت الفرنسية (1798- 1803)، ووصول محمد على باشا الكبير إلى قمة السُلطة فى مصر (1805- 1841).
وحجازى مُحق تمامًا فى أن تِلك النهضة لابُد أن تكون لها جذور أعمق، وإلا فكيف فى غضون الثلاثين سنة الأولى من عهد محمد على يجد من المصريين وفى مصر تِلك المادة الثقافية وتِلك العناصر البشرية التى صاغ منها محمد على أركان الدولة والنهضة المصرية الحديثة؟
وبعقلية المؤرخ الاجتماعى، يُنقب حجازى فيما توفر لديه من وثائق القرن السابق لتِلك النهضة، وهو القرن الثامن عشر (1700- 1800)، ومن ذلك عُلماء وخريجو الأزهر الشريف، الذى كان خلال القرون السبعة السابقة هو مؤسسة الفكر الوحيدة التى تشرّب منها وفيها قلة من المصريين من أولاد الأعيان والتُجار، واستطاعوا أن يدرسوا ويتأهلوا لمناصب الإمامة والقضاء، أو ما يجود به المماليك والأتراك على أبناء المصريين فى المواقع الدُنيا من الإدارة.
وحسبما تعلمناه من المؤرخة العظيمة، الأستاذة بجامعة كاليفورنيا، عفاف لطفى السيد مارسو (A.L.Marso)، ومن المؤرخ الذى لا يقل شُهرة وإبهارًا، وهو الدكتور خالد فهمى، فإنهما حصرا حوالى خمسمائة اسم لشخصيات اعتمد عليها محمد على من المصريين، إلى جانب سابقيهم من الأتراك والألبان والشركس والأوروبيين من أتباع المؤرخ المُفكر الفرنسى سان سيمون، والذين رأوا فى محمد على زعيمًا مُلهمًا، يكاد يكون نُسخة شرقية من نابليون بونابرت.
وأطلقوا عليهم رجال الباشا، الذين اشتهر منهم رفاعة رافع الطهطاوى، صاحب «تخليص الإبريز فى تلخيص باريس»، وعلى مُبارك، من بلدة دكرنس، قُرب المنصورة، فى قلب الدلتا، والذى أجاد رسم الخرائط المُفصلة لمُدن وقُرى مصر، فى كتابه الأشهر «الخطط التوفيقية»، وغيرهما ممن يحمل العديد من ميادين مصر وشوارعها أسماءهم- مثل لاظوغلى.
والذى فهمناه هو أن محمد على أرسل كشّافين إلى كل أنحاء مصر المحروسة لحصر وإحضار الصبية والنُبهاء من كتاتيب تحفيظ القرآن، ومنح أهلهم عطايا حتى يتركوا أولادهم لاستكمال تعليم إضافى يؤهلهم للتوظف فى دواوين الباشا بمرتبات مُنتظمة، وأطلق على تِلك الدواوين فيما بعد «الأميرية»، ومنها التعبير الدارج «الميرى». ومن ولع المصريين بتِلك الوظائف ذات المرتبات المنتظمة ظهر التعبير الدارج: «إن فاتك الميرى فلتتمرمغ فى ترابه». ومازال هذا التقليد راسخًا فى الثقافة الشعبية المصرية حول الوظيفة الحكومية، التى تضمن لصاحبها ولعائلته حدًا أدنى من الدخل (المُرتب أو الماهية) المنتظمة، ومعاشها بعد التقاعد.
المهم- وعودة إلى سؤال أحمد عبدالمُعطى حجازى- أن مصر منذ عشرة قرون وهى بلد نُجباء وحِرفيين مهرة، يتعلمون ويُنجزون ويُبهرون. وربما نذكر أن الفاتح العُثمانى السُلطان سليم، بعد أن أعدم آخر سلاطين المماليك، ودحر كبيرهم السُلطان الغورى، أبهره قصور المماليك ومساجد مصر، التى لم يكن لها مثيل فى عالمه الوافد من أواسط آسيا، فأمر بجمع ما بين خمسة وعشرة آلاف من أمهر الحِرفيين المصريين، وأخذهم إلى عاصمته إسلامبول التركية لتشييد قصور مماثلة لما كانت تزخر به القاهرة وبقية المُدن المصرية.
ومن الطريف أن أولئك الحِرفيين المصريين أنشأوا قُرب الأحياء التى سكنوها فى إسلامبول سوقًا مازالت موجودة إلى اليوم، أى بعد أكثر من خمسة قرون، وتحمل اسم سوق المصريين!.
وربما كانت النهضة التى وصلت إلى إحدى قممها فى عهد محمد على، ثم إلى قمتها الثانية فى عهد حفيده إسماعيل، هى ما نبّه اليابانيين فى بداية عصر الميجا والساموراى إلى إرسال وفد إلى مصر، عاش فيها ما يقرب من سنة، لدراسة تِلك التجربة المصرية الشرقية، والتعلم منها. وهو ما سيظهر جليًا فى التقدم السريع لليابان فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر، والذى كانت إحدى ثمراته التفوق العسكرى اليابانى فى صراعهم مع روسيا، التى أوقعوا بها أول هزيمة لدولة أوروبية كُبرى على يد بلد آسيوى يافع. وألهم ذلك الكثيرين من أبناء الشرق، بمَن فيهم شُعراء مصر، مثل «شوقى» و«حافظ».
وللأمانة، ولعدم الوقوع فى أى نرجسية وطنية مصرية، فإن كل المجتمعات الإنسانية قادرة على إنجاب وتنشئة نُخب مُتميزة فى كل فروع الحياة، فكما أنجبت مصر نُخبها المُتميزة، كذلك فعلت الهند وماليزيا وبقية بُلدان شرق آسيا، كوريا والصين وتايوان وسنغافورة. المهم أن يكون هناك مَن يُلهم، ومَن يرعى، ويجعل من الجدارة وتكافؤ الفُرص مذهبًا وعقيدة.
وعلى الله قصد السبيل..
نقلا عن المصري اليوم