عيد اسطفانوس
نأسف فربما يكون هذا الطرح من النوع المقبض ،أو أنه لايجارى احداث ساخنة على الساحه ،أو ربما هى مشاعر شخصية تخص كاتبها ،لكننى أرى أن تجربة الألم هى حالة انسانية ربما تستحق الكثير من التأمل والتمحيص ، ولقد جاءت الفرصة وعايشتها كما لم يحدث لى منذ سبعة عقود ،ولقد اكتشفت حصيلة من المشاعر والأحاسيس الحقيقية التى كنت أسمعها وأسمع عنها فقط ، واكتشفت أيضا مدى الفارق الهائل بين أن تسمع عن شئ وأن تعايشه أو تحس به .
والألم هو صراخ الجسم البشرى للتنبيه عن عطب أصاب عضو من اعضائه وكلما كانت الاصابة جسيمة كان الصراخ عاليا أو الألم شديدا ، وللألم تابعيه أو توابعه ففى حضرته تتضائل كل الاشياء الرغبات والامنيات والشواغف وحتى الحواس وتتضاءل حتى الرغبه فى الحياه ذاتها ،وتنسج الكآبه خيوطها حول روح الانسان ومن يستغرب حالات الانتحار وكيف يلقى انسان بنفسه الى التهلكة لم يجرب الألم ، فكما يتألم الجسد تتألم النفس وكما تخرج آهات الأجساد العليلة من الأفواه ساخنه دامعه تخرج آهات النفوس الحزينة المتألمة من شغاف القلوب محمله بالعزوف عن الحياه .
والأجساد فى جدة الحياه تفرز غددها مسكنات تخفف ولو نسبيا من موجات الألم ،لكن مع التقدم فى العمر تشيخ الغدد والخلايا وتتكاسل عن افراز تلك المركبات مما يستوجب تناول أدوية ومركبات تحاول تثبيط مراكز الاحساس بالألم ،وهى تتدرج بين المسكنات البسيطة لحالات للآلام الشائعة الى المخدرات القوية للأمراض الخبيثة التى تنتج آلاما تفوق الاحتمال البشرى وهى كثيرة .
والاحباط واليأس هما رفاق الألم وتابعوه ،فما أن تشتد موجاته تظلم الدنيا فى الأعين ويهتز كيان الانسان كله ويتسلل الى النفوس شعور العجز والمهانه والضعف والاحتياج وبالأخص عندما يكون الانسان من ذاك النوع النشط الدؤوب .
وأنا وقد تجاوزت السبعين ويستغرب كثيرون حولى أنى لاأزال متشبث بالحركه وبالعمل ولا يمللوا اسداء النصح لى بضرورة الراحة والاعتزال الا أن طبيعتى ونمط حياتى كانا يرفضان ذلك بشده بالاضافة بالطبع للرفض الغريزى بالاعتراف بالواقع .
ثم جاءت اللحظة الفارقه سقطت من ارتفاع خطر عندما زلت قدمى اثناء ارتقاء سلم لاصلاح شئ مما اعتدت اصلاحه أو صيانته وكسرت قدماى ،واعتقلت فى سجن سريرى وأصبحت ــ انا الذى كان بعضهم يتندر على بانه يمكن ان اتواجد فى مكانين مختلفين فى وقت واحد ــ أصبحت سجينا لا حول لى ولا قوه ،وياليتنى كنت سجينا فقط ولكن سجينا يتألم وياليته ألم محتمل لكن من جرب ألام العظام المكسورة يعرف أن كلمة آلام مبرحه هو تعبير مخفف وخصوصا فى السن المتقدمه، ناهيك عن شعور العجز والمهانة وخصوصا مع الرحلة الى مكان قضاء الحاجه والعوده منه فهى جحيم معاناه من الألم الجسدى ومعاناه أكبر من الألم النفسى .
وان كانت التجربة قاسية الا ان لها جانبها الايجابى فعلى الانسان أن يطوع نفسه ويكبح جماح كبريائه وأن يعترف بأحكام العمر والواقع ،وعلى الانسان العاقل أن يعرف أن العمر شرائح سنيه كل شريحة لها قواعدها الى يتحتم الالتزام بها التزاما صارما اذا ماكان الانسان يريد العبور بسلام الى مستقره الأخير ،أما الوقوف عند مرحلة معينه والاعتقاد بأنها مرحلة مستدامه فهو وهم دفعت أنا محدثكم ثمنه باهظا .
وقد منحتنى هذه المحنة هبات انسانية كثيرة منها معرفة ماذا يفعل الألم بالانسان ومعرفة قيمة أن يشاركك آخرون وجدانيا فى التخفيف ولو بمجرد السؤال وعرفت أيضا مدى ضعف النفس البشرية مهما كانت ضخامة هياكل أجسادها وعرفت مدى احتياج الانسان لانسان ودروس وعبر كثيرة ماكان يمكن اختبارها الا مع التجارب وخصوصا تلك التى يصاحبها ألألم .