فاروق عطية
قال خالد محي الدين في مذكراته"والآن أتكلم": إن عبد الناصر كان ضد الديمقراطية على طول الخط و انه هو الذي دبر الانفجارات الستة التي حدثت في الجامعة وفي جروبي وفي مخزن الصحافة بمحطة سكة حديد القاهرة وانه اعترف لعبد اللطيف البغدادي وكمال حسين وحسن إبراهيم انه هو الذي دبّر هذه التفجيرات لإثارة مخاوف الناس من الديمقراطية، وللإيحاء بأن الأمن سيهتز وأن الفوضى ستسود إذا مضوا في طريق الديمقراطية. و أكثر من ذلك هو الذي نظم إضراب العمال الشهير في مارس 1954م ، و انه هو الذي أنفق عليه وموّله، قال عبد الناصر لي بالحرف: هذا الإضراب كلفني أربعة آلاف جنيه (وهي تساوي بسعر اليوم أربعمائة ألف جنيه). بهذه العقلية التآمرية كان عبد الناصر يدير شئون مصر و يفجر القنابل و ينظم الإضرابات ثم يبحث عن متهمين وهميين يعلق في رقابهم التهم والشبهات.
قال الدكتور مصطفي محمود في كتابه "المؤامرة الكبرى": ﺳﻴﺸﻬﺪ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺦ ﺃﻥ ﻋﺒﺪ ﺍﻟﻨﺎﺻﺮ ﺗﺴﻠﻢ ﻣﺼﺮ ﻭﻫﻲ ﺍﺳﻤﻬﺎ ﻣﻤﻠﻜﺔ ﻣﺼﺮ ﻭﺍﻟﺴﻮﺩﺍﻥ ﻭﻳﻘﻊ ﻗﻄﺎﻉ ﻏﺰﺓ ﺗﺤﺖ ﺇﺩﺍﺭﺗﻬﺎ، ﻭﺳﻠﻤﻬﺎ ﻟﻤﻦ ﺑﻌﺪﻩ ﻣﻦ ﻏﻴﺮ ﺍﻟﺴﻮﺩﺍﻥ ﻭﻣﻦ ﻏﻴﺮ ﻏﺰﺓ ﻭﻣﻦ ﻏﻴﺮ ﺛﻠﺚ ﻣﺼﺮ (ﺳﻴﻨﺎﺀ) !!!!
ﻛﺎﻥ ﻳﺤﺎﺭﺏ ﻓﻲ ﺍﻟﻜﻮﻧﻐﻮ ﻭﺍﻟﻴﻤﻦ ﻭﻳﺮﻓﻊ ﺭﺍﻳﺎﺕ ﺍﻟﻘﻮﻣﻴﺔ ﻭﺍﻻﺷﺘﺮﺍﻛﻴﺔ ﻓﻲ ﻛﻞ ﻣﻜﺎﻥ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺤﻴﻂ ﺍﻻﻃﻠﺴﻲ ﺍﻟﻰ ﺍﻟﺨﻠﻴﺞ ﺍﻟعربي، ﻭﻛﺎﻥ ﻳﻬﺘﻒ ﻣﺨﺎﻃﺒﺎ ﻛﻞ ﻣﻮﺍﻃﻦ ﻣﺼﺮﻱ: ﺍﺭﻓﻊ ﺭﺃﺳﻚ ﻳﺎ ﺃﺧﻲ. ﻭﻟﻜﻦ ﺍﻟﻤﻮﺍﻃﻦ ﺍﻟﻤﺴﻜﻴﻦ ﻭﺍﻟﻤﺨﺪﻭﻉ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻟﻴﺴﺘﻄﻴﻊ ﺃﻥ ﻳﺮﻓﻊ ﺭﺃﺳﻪ ﻣﻦ ﻃﻔﺢ ﺍﻟﻤﺠﺎﺭﻱ ﻭﻣﻦ ﻛﺮﺑﺎﺝ ﺍﻟﻤﺨﺎﺑﺮﺍﺕ ﻭﻣﻦ ﺧﻮﻑ ﺍﻟﻤﻌﺘﻘﻼﺕ ﻭﻣﻦ ﺳﻴﻒ ﺍﻟﺮﻗﺎﺑﺔ ﻭﻣﻦ ﻋﻴﻮﻥ ﺍﻟﻤﺒﺎﺣﺚ، ﻭﺳﺎﺩ ﻣﻨﺎﺥ ﻻ ﻳﺰﺩﻫﺮ ﻓﻴﻪ ﺇﻻ ﻛﻞ ﻣﻨﺎﻓﻖ، ﻭﺃﺻﺒﺢ ﺍﻟﺸﻌﺎﺭ ﻫﻮ ﺍﻟﻄﺎﻋﺔ ﻭﺍﻟﻮﻻﺀ ﻗﺒﻞ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﻭﺍﻟﻜﻔﺎﺀﺓ، ﻭﺗﺪﻫﻮﺭﺕ ﺍﻟﻘﻴﻢ، ﻭﻫﺒﻂ ﺍﻻﻧﺘﺎﺝ ﻭﺍﺭﺗﻔﻊ ﺻﻮﺕ ﺍﻟﻐﻮﻏﺎﺀ ﻋﻠﻰ ﻛﻞ ﺷﺊ. ﻭﻋﺎﺵ ﻋﺒﺪ ﺍﻟﻨﺎﺻﺮ ﻋﺸﺮﻳﻦ ﻋﺎﻣﺎ ﻓﻲ ﺿﺠﺔ ﺍﻋﻼﻣﻴﺔ ﻓﺎﺭﻏﺔ ﻭﻣﺸﺎﺭﻳﻊ ﺩﻋﺎﺋﻴﺔ ﻭﺍﺷﺘﺮﺍﻛﻴﺔ ﺧﺎﺋﺒﺔ، ﺛﻢ ﺃﻓﺎﻕ ﻋﻠﻰ ﻫﺰﻳﻤﺔ ﺗﻘﺴﻢ ﺍﻟﻈﻬﺮ ﻭﻋﻠﻰ ﺍﻧﻬﻴﺎﺭ ﺍﻗﺘﺼﺎﺩﻱ ﻭﻋﻠﻰ ﻣﺎﺋﺔ ﺃﻟﻒ ﻗﺘﻴﻞ ﺗﺤﺖ ﺭﻣﺎﻝ ﺳﻴﻨﺎﺀ ﻭﻋﺘﺎﺩ ﻋﺴﻜﺮﻱ ﺗﺤﻮﻝ ﺇﻟﻲ ﺧﺮﺩﺓ، ﻭﺿﺎﻉ ﺍﻟﺒﻠﺪ ﻭﺿﺎﻉ ﺍﻟﻤﻮﺍﻃﻦ.
كان عبد الناصر حقا ضد الديمقراطية على طول الخط، فقد ظلت مصر منذ انقلاب 23 يوليو 1952م حتى مساء 22 يوليو 1957م تحلم بأن تشهد البلاد مجلساً نيابياً يعبّر عن إرادة شعبها الذي تتحدث باسمه الأغاني والمقالات والأفلام، معبّرة عن ولاء الشعب للقائد الضرورة الملهم جمال عبد الناصر، والذي شاءت إرادته، بعد حوالي أربع سنوات من سيطرته على البلاد، ومصادرته العمل السياسي والحزبي والصحافي، أن يكون للشعب أخيراً برلمان، مجرد اسم على غير مسمى وتمت تسميته زورا وبهتانا بمجلس الأمة.
قبل ساعات من انعقاد الجلسة الأولى لمجلس الأمة تلقى حرس المجلس إشارةً بزيارة عاجلة سيقوم بها مسؤول كبير، بعدها وصل إلي المجلس الزعيم الملهم جمال عبد الناصر في سيارة عادية وبدون حراسة حتي لا يتعرف عليه المواطنون في الطريق. دخل عبد الناصر قاعة المجلس، وصعد على المنصة وسأل مرافقيه عن عدد الميكروفونات واتجاهها واختبر قوتها، ثم طاف بالبهو الفرعوني الشهير. وخلال تجوّله في أنحاء البرلمان، رأى تماثيل كان قد تم صنعها لزعماء مصر قبل الثورة، فأمر بتخزينها فوراً، لكي تتحقق القطيعة الكاملة مع الماضي الذي قامت الثورة من أجله، لتبقى التماثيل في المخازن إلى الأبد، وليبقى معها حلم الحياة النيابية السليمة الذي ظل حتى الآن وهماً لم ولن تشهده مصر.
بدأت أول خطوات المجلس النيابي السليم المنتظر بافتكاسة لم ولن تحدث في أي برلمان في أي بقعة من بقاع المعمورة. قبل أن تخطو أقدام الأعضاء خطوة داخل البرلمان، نشرت صحيفة الأهرام صباح يوم الافتتاح خبراً عن انتخاب عضو مجلس قيادة الثورة، عبد اللطيف البغدادي رئيساً للمجلس بالإجماع واسمي وكيلي المجلس المنتخبين كان أحدهما عضو آخر لمجلس قيادة الثورة، هو محمد أنور السادات والآخر هو محمد فؤاد جلال، كان أمرا مستفزا ومضحكا حتى البكاء، تسبب في أزمة حادة تحت قبة المجلس، كما يكشف المحرر البرلماني المخضرم محمد الطويل في كتابه (برلمان الثورة تاريخ الحياة النيابية في مصر 1957 ـ 1977م).
بدأت الأزمة، بعد أن انتخب المجلس لرئاسته المؤقتة أحمد صبحي الهرميل، أكبر أعضائه سنا، الذي دعا الأعضاء إلى انتخاب رئيس المجلس ووكيليه، وأعطى الكلمة لأول من طلبها، وهو الدكتور عبد الغفار متولي، الذي أدلى بكلمة غاضبةٍ، طلب فيها من رئيس المجلس أن يوجه نظر الصحف إلى عدم سبق الحوادث، معترضاً على الخبر الذي نشرته "الأهرام" عن انتخاب عبد اللطيف البغدادي ووكيليه بالإجماع قبل أن ينعقد المجلس، معتبرا ما حدث يمكن أن يجعل الشعب يسيء فهم المجلس ويتصور أن عليه إملاءات. والغريب بل والمضحك أن السادة الأعضاء أنفسهم قرروا أن يؤكدوا للعالم سوء الفهم هذا. تجاهلوا ما قاله زميلهم كأنه لم ينطق به، وصاح العضو محمود العتال بدون حتى أن يطلب الكلمة رسميا، مطالبا بترشيح عبد اللطيف البغدادي لرئاسة المجلس، ويصيح عضو آخر مطالبا البغدادي أن يقف ويقول اسمه بالكامل. وقف البغدادي فوراً وردد اسمه بالكامل، فدوّى المجلس بتصفيق حاد، تخللته أصوات تعلن الموافقة على ترشيحه بالإجماع، ولكي يزداد طين الإجماع بلّة، وقف العضو شوقي عبد الناصر (شقيق جمال عبد الناصر)، ليعلن أنه طالما كان المرشح لرئاسة المجلس واحداً فلا ضرورة لإجراء انتخاب على مقعد الرئيس، ليكون بالتزكية. عضو واحد هو محمود جلال الذي اعترض، وعارضه شوقي عبد الناصر بشدة وأيده العضو محمد علي قاسم، فصفّق المجلس لهذا التأييد. وأصر محمود جلال على التعبير عن رأيه مدعما بمواد من لائحة المجلس مما أربك الجميع، خصوصاً أن أداء محمود جلال كان قوياً بفضل تمرسه السابق في العمل النيابي، حيث كان عضوا ثماني سنوات في برلمانات ما قبل الثورة.
وللخروج من هذا المأزق قرر المجلس اجراء انتخابات بين المتقدمين لمنصب رئيس المجلس، وكانت نتيجة الانتخابات الهزلية كالآتي: حصل البغدلدي على 332 صوتا، وحصل محمود فهمي أبو كرورة على سبعة أصوات، وحصل محمد رشاد الحاذق علي صوتا واحدا، وحصل إبراهيم الطحاوي على صوتا واحدا أيضا، ليُعلن البغدادي رئيساً للمجلس وسط تصفيق حاد، صاحب كلمته التي أعلن فيها سعادته بانتخابه رئيساً لأول مجلس نيابي يقوم في عهد الثورة المجيدة.
وبعد أن استمع الأعضاء إلى كلمةٍ، ألح في طلبها محمود جلال العضو المتسرّب من حياة نيابية سابقة، ذكّرهم فيها بتاريخ العمل النيابي في مصر، لكي لا يتصوروا أنهم يجلسون في ذلك المكان من فراغ، وطالب رئيس المجلس وقادة الثورة بإتاحة الحرية للمجلس، ليكون خير ممثل للشعب حقاً وصدقاً. وهنا جاء الرد على كلامه بشكل عملي ومعبّر، حيث قرر العضو محمد فوزي أبو سيف، في كلمته، أن يوجه التحية إلى "السيد الرئيس العظيم جمال عبد الناصر ورفاقه الذين كان لهم الفضل على الشعب المصري" الذي أيّدهم في ثورتهم، وسيكون المجلس، بل ونحن لهم جميعاً، درعاً نضحي بحياتنا في سبيل هذه الثورة وأبطالها.
وتكتمل مسرحية انتخاب وكيلي المجلس اللذين سبق الإعلان عنهما قبل انعقاده وهما "محمد أنور السادات الذي حصل على 313 صوتا ومحمد فؤاد جلال الذي حصل على 269 صوتا"، وتظهر بعد ذلك نفحات النفاق والتملّق، حيث طلب العضو إسماعيل كامل عثمان أن يقوم مجلس الأمة بتكريم سيادة رئيس الجمهورية وزملائه أعضاء مجلس قيادة الثورة، ليزايد عليه العضو محمد فوزي أبو سيف، ويطالب بمنحهم عضوية مجلس الأمة الذي يفترض به أن يراقبهم. وترفع الجلسة الأولى للبرلمان بتلك الاقتراحات النفاقية على أساس أن تعود في مساء اليوم نفسه، لسبب لا أظن أحدا سيستغربه، هو الاستماع إلى أول خطاب للزعيم الملهم أمام برلمانه، الخطاب الذي جاء بالأمس ليراقب جودة الميكروفونات التي ستذيعه.
نجحت "دولة ناصر"، عبر مناهج التعليم المسيس والأذرع الإعلامية والثقافية النفاقبة، في أن تنشر بين المصريين، روايتها المعتمدة والوحيدة عن الفساد الكامل للحياة النيابية قبل الثورة، وأن الديمقراطية الحزبية التي شهدتها مصر لم تكن سوى أكذوبة لإلهاء الشعب عن مشكلاته الحقيقية، وأن مجالس النواب التي سبقت الثورة كانت كلها تقوم بعمل تمثيليات سياسية، يتواطأ فيها الجميع مع الملك. وفي مقدمتهم حزب الوفد الذي كانت الأغلبية الشعبية تؤيده. ولا خير في حياةٍ نيابيةٍ تقوم على التمثيل الحزبي والتنافس الانتخابي، بل على الانتخابات أن تتم بين من يثبت أنهم ليسوا من أعداء الشعب-أغلب هؤلاء كان قد تم رميهم في السجون أو نفيهم إلى خارج البلاد أو حتى إعدامهم "بأمر الشعب"- إلا أن الأمر لم يسلم من غربلة دقيقة لكل المرشحين، تتم تحت سمع وبصر وبطش الأجهزة الأمنية التي تم تطوير أدائها القمعي، لتجعل من أسطورة القلم السياسي المرعب أضحوكة.
وفي ظل بحار من طنطنة وتهليل وزعيق وسائل الإعلام المستمر "بإرفع رأسك بعد أن مضى عهد الاستعباد"، غرق المصريون في أكاذيب عدم جدوى الحياة البرلمانية القائمة على المنافسة الحزبية والديمقراطية وحرية التعبير، وسلّموا أمورهم للبرلمان المعقّم، الخالي من أعداء الشعب والمعارضة، والذي لن تدخله أبداً قوى "ظلامية رجعية مناهضة لأحلام الشعب المصري، كما يجسّدها، ويعبّر عنها، الزعيم الملهم جمال عبد الناصر".