بقلم فاروق عطية
14ـ يتفاخر أنصاره أن عهده شهِد زيادة هائلة في عدد المساجد من 11 ألف مسجد قبل الثورة إلى 21 ألف مسجد عام 1970م، أي أن في فترة حكمه(18 سنة) تم بناء عدد (10 آلاف مسجد) وهو ما يعادل عدد المساجد التي بنيت في مصر منذ الغزو الإسلامى.
في بداية رياسة عبد الناصر كان تعداد الشعب المصري لا يتعدي الـ 18 مليون نسمة وكانت الصحافة تكتب محذرة من وصول التعداد لـ 20 مليونا، وكان تعداد الأقباط المسيحيين المعلن (قبلالانقلاب) يتراوح بين 20-25% من عدد السُكّان، والغريب أن هذه الطفرة الهائلة في بناء المساجد لم يواكبها زيادة ملحوطة في بناء الكنائس. وللأسف لا توجد احصاءت تحدد عدد الكنائس التي بنيت أوالتي تم صيانتها في عهد عبد الناصر نتيجة للتعتيم حول تلك البيانات باعتبارها بيانات تقوم علي أبعاد طائفية وهو ما لا يتفق مع سياسة الدولة، لكن مسيحيي مصر ينظرون إلي الإعلان عن عدد كنائسهم باعتباره مؤشراً واضحاً يشرح مدي تسامح أو تعسف الدولة في التعامل مع قضية بناء كنائس جديدة.
من جانبها تمتلك الكنائس المصرية حصرا دقيقا للكنائس التابعة لها لكنها دائما ما تتردد في الافصاح عنه خشية ردود الأفعال الحكومية الرافضة تماما لأي تعداد رسمي أو حتي صادر عن الكنيسة. والمعلن أن الكاتدرائية المرقسية بالعباسية تم بناؤها في عهد عبد الناصر. البيانات الواردة في دليلمنتدي شبيبة مارفرنسيس بالجيزة الصادر في 2008م تؤكد أن عدد الكنائس الأرثوذكسية بلغ ألف و326 كنيسة، فيما كشفت الكنيسة البروتستانتية أن عدد كنائسها بلغ 1100 كنيسة في حين بلغ عدد الكنائس الكاثوليكية 200 كنيسة، وهو ما يعني أن مجمل عدد الكنائس في مصر بلغ ألفين و626 كنيسة.
لم تكن سياسة عبد الناصر الخارجية تُميِّز على أساس الدين، فإن نهجه الاقتصادي المحلي، الذي تضمّن عمليات إصلاح ومصادرة واسعة للأراضي إضافة إلى فرض قيود على حرية التعبير وتكوين الجمعيات السياسية، أدّى إلى طرد الكثير من المصريين الأثرياء، منهم العديد من الأقباط. عرض عبد ناصر أن يوفّر للأقباط شكلاً من الحماية الموروثة التي عزّزت الاستقرار الاجتماعي في الوقت الذي كرّست فيه عدم المساواة السياسية، يرى المؤرح مردوخاي نيسان أن الاضطهاد السياسي من قبل عبد الناصر، أدى إلى انغلاق وعزلة الأقباط والبحث عن طرق لتقوية روابط الإيمان الديني في الداخل. وفقا للباحث موليفي كيتيآسانطة لم يكن هناك تعاطف كبير مع الأقباط في عهد عبد الناصر، ولم يقم بتنصيب الأقباط في الوظائف العاليةوالرئيسية خلال إدارته، حيث بحسب الباحث لم يرى عبد الناصر الأقباط المسيحيين كمتعاونين ويضيف بأنه كوسيلة " للنجاة من التحرش والتمييز والاضطهاد الفظيع"، قام الأقباط بالمحافظة على دينهم وتوجهوا للعمل في مهن مثل الهندسة والمحاماة والطب والتعليم لضمان حياة كريمة. وفقاً للباحثين بول بيشي وجون كرومكوسكي وجورج ف ماكلين؛ فإنه على الرغم من أن المسيحيين الأقباط والمسلمين في مصر تشاركوا في مشاعر قوية حول الهوية المصرية، الا أن هذا في نهاية المطاف لم يمنع التعصب أو اضطهاد الأقباط.ورغم التعتيم المفروض علي الأحداث الطائفية تم رصد حدثين طائفيين هامين في عهد عبد الناصر، أولهما الاعتداء علي كنيسة بضواحي الأقصر سنة 1968م، وثانيهما حدوث معركة مؤسفة ومؤلمة في جبانة الأقباط بأخميم قتل فيها مسيحي وأصيب العشرات1970م
بعد نجاح انقلاب 23 يوليو والاستحواز على السلطة دخلت عدة متغيرات على طبيعة علاقة المكون المسيحي المصري بالجماعة الوطنية، وعلى فلسفة العلاقة بين السلطة ومؤسسات ورموز المسيحيين المصريين؛ فبدلاً من تواصل السلطة بالمكون المسيحي عبر بوابة المواطنة والأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني أصبح التواصل يتم عبر مؤسسات الكنيسة المصرية حصرياً ورجالتها بداية من البابا وانتهاءً بالقساوسة والرهبان!، وبهذه الطريقة انسحب المكون المسيحي بالتدريج من المشاركة المجتمعية مع الجماعة الوطنية في كافة الأنشطة الاجتماعية والثقافية والسياسية وأصبحت معادلة السلطة مع المكون المسيحي قائمة على هذه الاستراتيجية “المسيحيون في جيب البابا والبابا فى جيب السلطة“وفق تعبير المفكر المسيحي ميلاد حنا، فقدعقد عبد الناصر شراكة مع البابا كيرُلّس السادس، ضمن من خلالها ولاء الكنيسة ودعمها للنظام السياسي الجديد، بينما تولى عبدالناصر تأمين وحماية أمن المسيحيين ومكانة البابا وعدم التدخل في الشأن الداخلي للكنيسة.
حقيقة كان عبد الناصر متدينا ولكنه استغل تدينه سياسيا، ليثبِّت زعامته ويضخمها في مصروفي الدول العربية والإفريقية وفي العالم الإسلامي، وليثبت لجماعة الإخوان بعد انسلاخه عنهم أنه أكثر منهم إسلاما، وأنه الزعيم الأوحد لمصر ومخلص الدول العربية من الإمبريالية الفاسدة، وأنه حامي مسلمي أفريقيا من المد التبشيري الغربي وأنه النصير الدائم لتحريرها من ربقة الاستعمار. وبدأ مخططه هذا بمضاعفة عدد المساجد بمصر ناسيا أو متناسيا أن ما ينفقه في ذلك هو من أموال المصريين جميعا مسلمين ومسيحيين.
15ـ يفخرون أيضا بأن تطوير الأزهر الشريف وتحويله لجامعة عصرية تدرس فيها العلوم الطبيعية بجانب العلوم الدينية، وبناء آلاف المعاهد الأزهرية والدينية في مصر وافتتاح فروع لجامعة الأزهر في العديد من الدول الإسلامية تم في عهده. كما كان له الفضل في إرسال البعثات الأزهرية إلى أفريقيا واستقبال مصر لأبنائها للتعلم بأزهرها. في عهده وصلت الفتاة لأول مرة إلى التعليم الديني كما تم افتتاح معاهد أزهرية للفتيات، وأقيمت مسابقات عديدة في كل المدن لتحفيظ القرآن الكريم، وطبعت ملايين النسخ من القرآن الكريم، وأهديت إلى البلاد الإسلامية وأوفدت البعثات للتعريف بالإسلام في كل أفريقيا وآسيا، كما تمت طباعة كل كتب التراث الإسلامية في مطابع الدولة طبعات شعبية لتكون في متناول الجميع، فيما تم تسجيل المصحف المرتل لأول مرة بأصوات كبار المقرئين وتم توزيعه على أوسع نطاق في كل أنحاء العالم.كما في عهده تم ترجمة القرآن الكريم إلى كل لغات العالم، وإنشاء إذاعة القرآن الكريم التي تذيع القرآن على مدى اليوم دون توقف.
نعم حدث كل ذلك تطبيقا لاستراجيته القائمة على تمكينه من بسط نفوذه وديكتاتوريته علي مصر والعرب ومسلمي أفريقيا وآسيا:
ـ كان الأزهر الشريف بشيوخه وعلمائه، شاهدًا على السياسة التي انتهجها عبد الناصر نحو الأزهر والإسلام كافة، فهو أول رئيس مسلم في التاريخ يتم في عهده جمع القرآن الكريم مسموعًا “مرتلًا ومجودًا”، وتمت ترجمة القرآن الكريم إلى كل لغات العالم في عهده، كما أنشأ إذاعة القرآن الكريم التي تذيع القرآن على مدى 24 ساعة يوميا.
ـ ظهر جليًا في عهدهقدرته على نطويع الأزهر وشيوخه لخدمة سياساته التي انتهجها عقب انتهاء الحكم الملكي في مصر، الذى فى إطاره تم تحويل الجامع الأزهر إلى جامعة شاملة، واستتبعها بإنشاء مدينة “البعوث الإسلامية” التى تستقطب الطلاب المسلمين من كل أنحاء العالم الإسلامي، كما تم وضع حجر الأساس للكاتدرائية البطرسية بالعباسية؛ لتصبح من أكبر كنائس أفريقيا، وأضيف لقب الـ “بابا” للبطريرك المصرى فى قرار تعيينه بعد انتخابه، ربما ليقدمه عبد الناصر إلى العالم كمواز “لبابا روما” فيما يمكن اعتباره جزءًا من رؤية سياسية تحقق للرئيس عبد الناصر اكتمال الزعامة.
ـ إن ما أحدثه جمال عبد الناصر هو أكبر توغل في تاريخ المؤسسة الدينية، إذ عمل على ضم الأزهر إلى سلطة الدولة، لإحداث توازن مع جماعة الإخوان المسلمين، فأصدر قبلها قانون الإصلاح الزراعي، في سبتمبر 1952، والذي ضم الأوقاف في وزارة جديدة لها، ومن خلال السيطرة على أراضي الوقف اكتسب النظام أداة جديدة لمكافأة من يطيعونه ومعاقبة من يعارضونه، ثم تلى ذلك إلغاء المحاكم الشرعية، وهي محاكم كانت تعمل بموازاة المحاكم العلمانية التي أنشأها محمد علي.
ـ أنشأ مدينة البعوث الإسلامية على مساحة 30 فدانًا، وكانت ومازالت تضم عشرات الآلاف من الطلاب المسلمين، قادمين من 70 دولة إسلامية يتعلمون في الأزهر مجانًا ويُقيمون في مصر إقامة كاملة مجانًا أيضًا، وزودت الدولة المصرية بأوامر من عبد الناصرالمدينة بكل الإمكانيات الحديثة وقفز عدد الطلاب المسلمين في الأزهر من خارج مصر إلى عشرات الأضعاف، بسبب اهتمامه بالأزهر الذي قام بتطويره وتحويله إلى جامعة حديثة عملاقة تدرس فيها العلوم الطبيعية مع العلوم الدينية بصدور قانون الأزهر1961م.
ـ بصدور قانون الأزهر 1961م، جُرد منصب شيخ الأزهر من قيمته السياسية، سمح القانون بتعيين وزير لشؤون الأزهر، وللرئيس باختيار شيخ الأزهر، ففضّلالشيخشلتوت شيخ الأزهر الحفاظ على كرامة المؤسسة ومكانة مشيخته ودافع عنهما، مما عرضه لخلافات شديدة مع رئيس الوزراء في ذلك الوقت علي صبري، وخاض شلتوت معركة صامتة تحلى فيها بالصبر، وعندما فقد الأمل في إصلاح الأمر قدم استقالته من مشيخة الأزهر في أغسطس 1963م.فيما كان لعبد الناصر هدف آخر من وراء هذا التطوير، وهو مواجهة النشاط التبشيري في أفريقيا بين الشعوب الوثنية حيث كانت فكرة عبد الناصر تدور حول أن يذهب الطبيب الأزهري والمهندس الأزهري والمدرس الأزهري وهكذا ليقوموا بالدورين، أي الدعوة من خلال الخدمة وتلبية احتياجات الناس،
ربما لم يكن يدري أن مخططه هذا سيؤدي إلى:
ـبث الإرهاب وانتشار الجماعات المتطرفة كبوكو حرام والقاعدة وداعش في ربوع أفريفيا وآسيا والعالم أجمع.
ـ لم يكن يعي أو يعي ويتجاهل، أن مصر دولة علمانية وليست دينبة حسب كل دساتيرها القديمة والمستحدثة، وأن ربع مواطنيها من الأقباط المسيحيين دافعي الضرائب التي يصرفها بسفه علي آلاف المبعوثين من دول أفريقيا وآسيا الإسلامية ليتعلموا ويقيموا آكلين شاربين مجانا، وعلى طبع كتب التراث بما فيها من ضلالات وتوزيعها بأبخس الأسعار وغيرها من المصروفات، وأن اصحاب البلاد في عوز ولا يتمتعون بتلك المميزات أو مثيل لها.
ـ من ناحية أخري قضي تماما علي مبدأ تكافؤ الفرص التعليمية في مصر بين مواطنيها، بتحويل الجامع الأزهر إلى جامعة علمية وعدم قبولها الطلاب المسيحيين في كلياتها وإتاحتها لأقرانهم المسلمين خرّيجي المعاهد الدينية والثانوية العامة بمجاميع منخفضة كثيرا عما بالجامعات المدنية.
نكمل مناقشة وتفنيد باقي انجازات عبد الناصر من وجهة نضر أتباعه والمنتفعين من عصره في المقال القادم إذا كان في العمر بقية.