بقلم: القس رفعت فكري
طالعتنا جريدة الأهرام المسائي بمقال لرئيس تحريرها الأستاذ محمد خراجة عنوانه "رؤية المدنية وتخاريف الدولة الدينية " وتضمن المقال مغالطات كثيرة تتعلق بالعلمانية وماهية الدولة الدينية, كما تعرض الأستاذ خراجة للمسيحية متهماً إياها بالتحريف فقل ما نصه "الدولة الدينية التي يزعمونها, إنما ظهرت في العصور الوسطي في أوروبا لسيطرة الكنيسة وطغي رجالها بدينها المحرف"
وتعليقا على هذا المقال لنا بعض الملحوظات :
أولا : الدولة الدينية ليست هي التي ظهرت فقط في العصور الوسطى في أوربا لسيطرة الكنيسة, فمن حولنا توجد دول تعرضت للخراب والدمار والتقسيم بسبب الإصرار على فرض شريعة دينية, ولعل الصومال والسودان وأفغانستان وإيران أمثلة واضحة لكل ذي عين بصيرة. فالحكم الديني في أوروبا أوغيرها من الدول التي تستند في حكمها لمرجعيات دينية، لن تجد إلا سيادة القهر باسم الله وباسم الدين، وحيث الحكم الديني تسود العنصرية والاستعلاء علي الآخر الديني المغاير، وينتشر التمييز علي أساس اللون والدين والجنس، ويزداد كبت الحريات وقصف الأقلام ومصادرة الكتب وقتل الإبداع وفي ظل الحكم الديني كثيرًا ما يحدث تقسيم للدولة الواحدة إلي عدة دول لأن الاندماج الوطني لا يمكن ان يحدث في ظل أي حكم ديني.
ثانيا : ذكر الأستاذ خراجة في مقاله ما نصه " إن العلمانية التي ينادون بها; بمعني فصل الدين عن الدولة, إنما أدت إلي تقدم حضاري مادي ملموس في الدول التي طبقتها, بينما أدت الي انهيار أخلاقي رهيب" وكلام الأستاذ خراجة عن العلمانية يؤكد ان دعاة الدولة الدينية في عالمنا العربي يحاولون قدر استطاعتهم تشويه لفظ «العلمانية» وترسيخه في أذهان العامة والبسطاء علي اعتبار أنه مرادف للكفر والإلحاد والعياذ بالله، وأسلوب تشويه مصطلحات الحداثة هو أسلوب معروف ومألوف لدي الأصوليين فقديما قيل لأتباع أحمد لطفي السيد الذي كان يروج للديمقراطية في حملته الانتخابية، ان الديمقراطية تعني تبادل الزوجات!! وذلك بقصد تشويهه وعدم فوزه في الانتخابات، وها هو التاريخ يعيد نفسه بتشويه مصطلح العلمانية، والسبب في هذا الموقف المعادي للعلمانية هو أنها ستسحب البساط من تحت أقدام المستفيدين من دعوة الدولة الدينية والمنظرين لها، فالعلمانية تدعو لحوار الأفكار علي مائدة العقل وتعريتها من رداء القداسة الذي يغطيها به هؤلاء الدعاة للوصول إلي أهدافهم، فدعاة الدولة الدينية يتحدثون عن حكم الله بينما العلمانية تتضمن الحديث عن الديمقراطية والدستور لتنظيم العلاقات بين البشر، فالعلمانية كما يعرفها الدكتور مراد وهبة هي التفكير في النسبي بما هو نسبي رئيس بما هو مطلق، ويخطئ من يظن ان العلمانية هي نقيض الدين، ففي حقيقة الأمر ان العلمانية تعلي من شأن القيم الدينية.
وتقوم علي احترام الدين وعدم تلويثه بالسياسة، وتحول دون تحويل الصراع السياسي إلي صراع ديني، فهي ليست سوي تنظيم اجتماعي يبعد الدين عن استغلاله في السياسة والمتاجرة به، في حين ان الجوانب الأخري من الحياة مشروع فيها استخدام الدين بكل أشكاله ومستوياته، وفرق كبير بين ان نقول إن العلمانية ليست دينية، وان نقول ان العلمانية تعني الإلحاد واللادينية، فكونها غير دينية يعني أنها تقف من الدين موقفا محايدا، باستثناء الدين المسيس، أو المقحم في الشأن السياسي، وفي شئون الدولة فالدين السياسي هو المرفوض عند العلمانيين وليس الدين كدين إذا ما جري الفصل بينه وبين السياسة وبينه وبين أسلوب حكم الدولة، أما القول بأن العلمانية هي اللادينية، فهذا كلام غير حقيقي، حيث ان العلمانية المعتدلة هي التي تحترم الدين ولكنها ترفض قاطعا تسييسه وإقحامه في نظام الحكم، كما ترفض تديين السياسة والدولة والدستور.
ومن ثم فالعلمانية ليست ضد الدين بل هي ضد تدخل الدين بالسياسة وعلي هذا الأساس فقد اكتظت مدن الدول ذات الحكومات العلمانية بالكنائس والجوامع والمعابد، بعكس دول أخري كثيرة تحكمها دساتير دينية ولا توجد فيها حرية اعتقاد ولا حرية بناء أماكن عبادة للمغايرين لدين الدولة، وكذلك في الدول العلمانية يتعاون السياسون مع رجال الدين وتدعم الدولة المؤسسات الدينية بقدر تدعيمها لمنظمات المجتمع المدني الأخري، وذلك لأن العلمانية لا تجعل الدين أساسا للمواطنة، ولكنها تفتح أبواب الوطن للجميع من مختلف الأديان، هذه هي العلمانية دون زيادة أو نقصان فهي لم ترادف في أي زمان أو مكان نفي الأديان، وأسس الدولة العلمانية تتمثل في دولة محايدة تجاه جميع مواطنيها ليس لها دين رسمي، وان حق المواطنة هو أساس الانتماء وليس الدين أو الجنس، وان الأساس في الحكم هو الدستور الذي يساوي بين جميع المواطنين ويكفل حرية العقيدة دون قيود وان المصلحة العامة والخاصة هي أساس التشريع، فلا توجد ديمقراطية حقيقية بدون علمانية.
وعلي الرغم من هذا الخلط المتعمد ألم يسأل الأستاذ خراجه نفسه لماذا يضطر عشرات الآلاف من شبابنا العربي أن يهاجروا ويفروا من جناتنا وفراديسنا العربية إلي حيث الجحيم الأوروبي العلماني؟! أما بشأن قول الأستاذ خراجة بأن العلمانية أدت الي انهيار أخلاقي رهيب, فلست أدري مالعلاقة بين العلمانية والانهيار الأخلاقي الرهيب؟ فلا توجد علاقة مطلقا بين فصل الدين عن نظام الحكم وبين فساد البشر، فالعلمانية ليست هي السبب في فساد بعض البشر، لكن الفساد موجود لأن نفس الإنسان كثيرا ما تأمره بالسوء، والموضوعية تدعونا لأن نقول ان الفساد الإنساني غير مرتبط بشرق أو بغرب، فالفساد موجود في كل مكان، وعالمنا العربي علي الرغم من تدينه وتعبده وحرصه الشديد علي تطبيق الشرائع وإقامة كل الشعائر الدينية.
إلا أن الفساد يستشري في جسده من هامة الرأس لأخمص القدم، وتقارير منظمات الشفافية العالمية هي خير دليل علي ذلك! إن لدينا في عالمنا العربي زيادة في عدد المصلين ولكن هذا لا ينعكس علي أخلاقنا وضمائرنا ومعاملاتنا وإخلاصنا في العمل والإنتاج، بعكس غالبية المواطنين في الدول العلمانية الذين يتمتعون بالإخلاص واحترام الوقت والحرص علي كرامة الإنسان بغض النظر عن جنسه ولونه ودينه, إننا بارعون في ممارسة التعبد والطقوس، ولكننا مع الأسف لدينا الكثير من الثقوب في الضمير الجمعي والشخصي.
ثالثاً: أتهم الأستاذ خراجة المسيحية بأنها محرفة فقال مانصه "الدولة الدينية التي يزعمونها, إنما ظهرت في العصور الوسطي في أوروبا لسيطرة الكنيسة وطغي رجالها بدينها المحرف" وتناسى سيادته أن الكتاب المقدس كتاب سماوي موحي به من الله سبحانه وتعالي, وقد شهد القرآن الكريم لصحة ما جاء به وسأذكر بعض الآيات القرآنية علي سبيل المثل وليس الحصر:سورة آل عمران(3 و4): وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدي للناس.
سورة المائدة(43 و44): وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله.. إنا نزلنا التوراة فيها هدي ونور.
سورة العنكبوت(46): ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم, وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد.والإشارة في هذه الآية إلي القرآن الكريم: الذي أنزل إلينا, وإلي الكتاب المقدس التوراة والإنجيل الذي أنزل إليكم.سورة النساء(136): ياأيها الذين آمنوا, آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل علي رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل, ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا.فإذا كان القرآن الكريم شهد لصحة الكتاب المقدس وأنه موحي به من عند الله فكيف نقول إن المسيحية محرفة؟
وإذا كان الكتاب المقدس الذي بين أيدينا اليوم غير صحيح فأين إذن الكتاب المقدس غير المحرف والذي شهد القرآن بصحته؟ هذا فضلا عن أن الله سبحانه وتعالي تعهد بحفظ كلمته في سورة الحجر(9): إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون. وإذا أخذنا بنص القرآن الكريم فإن كلمة الذكر تعني هنا القرآن نفسه, لكنها تعني أيضا كل ما ذكر من كلام الله بدليل قوله تعالي في سورة الأنبياء(105):... ولقد كتبنا في الزبور بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون. ومن البديهي أن الزبور وهو كتاب الله المنزل علي داود, قد نزل بعد التوراة وليس بعد القرآن. إذن فالمقصود بالذكر في سورة الأنبياء(105) هو: التوراة. والله يتعهد بكل ما أنزله من ذكر, ثم كيف يقول القرآن الكريم في سورة يونس94:
( فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك) أليس في هذا النص القرآني الكريم شهادة كافية للكتاب السابق في نزوله علي القرآن الكريم وهو الكتاب المقدس الذي يضم التوراة والإنجيل؟.
وختاما أود أن أقول للأستاذ خراجة إن الطعن في أي كناب مقدس من شأنه أن يفتح باب الطعن في أي كتاب آخر ولا سيما وأن الزعم بتحريف الكتاب المقدس من شأنه أن ينسب الضعف لله جل وعلا وعدم قدرته على حفظ كلمته من التحريف والتبديل, وهذا مالا يجوز لأي أحد بأي حال من الأحوال أن ينسبه لجلاله الأقدس .
راعي الكنيسة الإنجيلية بأرض شريف – شبرا
refaatfikry@gmail.com