فاروق عطية
الواد عوضين أبو لسان زالف كان قاعد مع مجموعة من شباب الكفر علي قهوة العواطلية بجانب الترعة يحتسون الشاي المغلي أبو لون زي الحبر، ويتبادلون غابة الجوزة بشغف ويخرجون دخانها من فتحات أنوفهم في سعادة، والواد حمدته صبي المعلّم حمؤة واقف زنهار بجوارهم لتغيير حجر الجوزة عند اللزوم. واحد لمض من المجموعة حب ينكش عوضين ويُغريه بالحديث الذي يستعذبه الجميع، قال له: إيه أخبار العمدة وبلح نخلته ياض؟. فطن عوضين للمطب الذي يريدون إيقاعه فيه، فقال باسما: سيبكم من العمدة وبلحه وبلاش توقعوني في شر أعمالي، ولا انتوا عاوزين العمدة يقفشني ويخللي شيخ الغفر يعبطني وملاقيش سريخ ابن يومين منكم يدافع عني، وكلاتكم تقفوا متفرجين ومنشكحين !!.
سأله آخر: أُمّال هتفطنا وتضحكنا علي مين النهار ده يا ابو لسان زالف ؟. إعتدل عوضين في جلسته وأخذ الوضع المطلوب لإثارة المجموعة والحصول على الصمت والإصغاء وقال: النهاردة عندي كلام مش هيضحّكم وجايز ما يعجبش الحنابلة منكم وجايز يبكي اللي لسه عنده ضمير ولسة تجار الدين معلّموش عليه ولبّسوه العِمة، لكين لازم ولابد أقوله عشان الساكت عن الحق شيطان أخرس، وآني والحمد لله لا شيطان ولا أخرس، زي ما انتوا عارفين لساني زالف زي ما بتقولوا ومأتعديش عليا غلطة واسكت عليها، جاك خابط منك له.
صمت قليلا حتي اشرأبت الأعناق وجحظت العيون وطأطأت الآذان لسماع حديثه، شد نفس طويل من الجوزة وأخرج الدخّان من فتحتي منخاره وتنحنح ثم قال: أولت امبارح كنت معزوم حدى الواد جودة ابن الغفير مجاهد، الواد الرِقم اللي انتوا عارفينه، عشان يفرجني علي التلفون اللي اشتراه، سبحان الله يدي الحلق للي بلا ودان. الواد جوده فتح التلفون علي الفيكس بكس أو الفرس برس، والله ما انا عارف انطقها زين (يقصد الفيس بوك)، المهم شفنا اللي بيسموه في الفيكس بكس فضيحة الموسم. الحدوتة وما فيها أن نقابة المدرسين في المنصورة سوت رحلة ترفيهية نيلية للمدرسين والمدرسات في نص شهر ديسمبر، يعني كدة عقبال عندكم مركب كبير يساع حوالي 200 شخص وفية مزيكة وزيطة وزمبليطة من اللي يحبها قلبكم في النيل الجميل، مُدرِّسة نعنوشة اسمها آية يوسف وهي مُدرّسة لغة عربية متطوعة في مدرسة من مدارس المنصورة كانت في ذات الرحلة مع أولادها وقرايبها واصدقائها وزمايلها وزميلاتها، ولما اشتغلت المزيكة "رقصت تلقائي"، رقصت وماكانتش لا مؤاخذة لابسة بدلة رقص ولا متحزّمة وللحق كانت متحشمة ولا شعرة من راسها باينة، وكان عدد من المدرسين والناظر الكُبّارة أبو شعر شايب بيرقصوا معاها والكل كليلة مبسوطين ومزقططين وبيسقفوا علي الواحدة ونص. كان فيه ناس ياما حريم ورجالة بيرقصوا زيها، المهم في حد صورها بدون ما تاخد بالها هي بالذات دون خلق الله المنعنشين، وحد قدم شكوى باعتبار ما عملته كبيرة من الكباير وعيب في حق التعليم والمعلّمين، وحد حقق وحولها للنيابة، ايوة بالضبط كده عشان "رقصت" وكمان أنتم اكيد عارفين الشعب المتدين بطبعه ماسابهاش في حالها. الكل كتب وبعبر، اللي قال جابت العار لمهنة التعليم، واللي قال أبوها معرفش يربيها وجوزها معرفش يُشكمها، واللي أفتي وقال حرام رقص الحريم قدام الرجّالة، وكلام ياما في حق الصبية كأنها ارتكبت جريمة. النتيجة وزارة التربية والتعليم اللي مش قادرة تمنع التحرش في المدارس ولا الخناقات يين المدرسين والتلامذة، ولا قادرة تمنع الدروس الخصوصية اللي مليهاش حدود تفط وتنط وتصدر قرار بفصلها من وظيفتها، وماخدِتش بالها أن المُدرِّسة بتعمل متطوعة يعني مش موظفة رسمي ولا بتقبض مرتّب، وكانت بتعمل بلّوشي علي أمل الوزارة تعينها وعلي رأي المثل آخرة خدمة الغُز علقة. وزوجها الجبان اشترى دماغه بدل ما يقف معاها في محنتها اتنطّع عليها وطلقها.
الأكادة أنها رقصت في رحلة ترفيهية مع زمايلها وزميلاتها اللي المفترض أنهم أقرب ليها من أهلها ذات نفسهم، مأرقصتش في فصل من فصول المدرسة ولا في حوش المدرسة، رقصت في رحلة ترفيهية عشان يفكوا عن نفسهم من تعب ومشاكل العمل. زي ما يكون يعني من شروط الرحلات الترفيهية في بلادنا المحروسة الجلوس بوقار والاستماع لمقرئ يحذرهم من عذاب القبر ونار جهنم يوم القيامة، ويقعدو مكلضمين ويشربوا قهوة سادة، وأن من شروط الرقص في الرحلات الترفيفية أن اللي عاوزة ترقص لازم ترضّع اللي هيشوفوها أو يرقصوا حواليها قبل الرحلة عشان ترقص معاهم براحتها !!
واحد من الشلة قاطعه في الكلام وقال: اشمعني هي اللي بيحاكموها ولم يتعرض حد للرجّالة اللي رقصوا معاها خصوصا الراجل الكُبارة الشايب ابو وسط مخلوع ولا عشان هي حُرمة وهم رجالة ؟ رد عليه الواد عوضين وقال: ما اتقاطعنيش جاك خابط يفك لحام صدرك، ما انا جاييلكم في الكلام، زي ما قلتلكم الرحلة كانت في نص ديسمبر اللي فات لكين الفيتيو انتشر علي الفيكس بكس بعدها بشهر كامل يعني اليومين دول، قام المهندس علي عبد الرءوف وكيل وزارة التربية والتعليم
بالدقهلية عمل تحقيق مع خمس مدرسين اللي رقصوا معاها وبعدين حولهم للنيابة الإدارية كأنهم ارتكبوا جريمة يعاقب عليها القانون.
قاطعه آخر وقال: ايه اللي خلاها ترقص وتجيب لروحها وجع القلب ؟. رد عليه عوضين: وايه اللي خللي نسوانا هنا في كفر الهنادوة يرقصوا ويغنوا في كل مناسبة حلوة زي فرح زواج أو طهارة عيل بدون ما حد مننا بيزعل ولا يطلّق مراته عشان رقصت. أختك بهانة رقصت امبارح في فرح أخونا عوض، وام حمدته فاطنة رقصت في طهور ابن عبد الباري ومرتي هنادي رقصت في أفراح ناس ياما ومحدش منا لوى بوزه ولا رمي طلاق أو حتى كشر في وش مرته أو أخته. والأكادة انهم بيقولوا أننا في الريف متمسكين بالتقاليد اكتر من البندر لأن البندر فيه تعليم وتمدن زيادة عننا، لكن يظهر إن الحال اتقلب وبقي الريف أكتر وعي وتفهم وتسامح والبندر اكتر تمسك بالتدين المظهري,
قاطعه آخر قائلا: سمعت في الراديو رأي للشيخ عبد الله رشدي الشهير بالشيخ مجانص قال فيه أن ما قامت به معلمة المنصور عملٌ دنئ وسلوكٌ مُشينٌ، خانتْ به ثقةَ زوجِها وأشانتْ به سيرةَ أبنائها وجاهرت فيه بمعصيةِ ربِّها، مِثْلُ هذه النماذجِ لابدَّ من مُعاقبَتِها. نرجو أن يتوب الله عليها ولها كلُّ الدَّعمِ إن تابت، ولكن التوبة من الذنبِ لا تمنعُ العقوبة. وقبل أن يرد عوضين عليه، انبري رجل كبير في السن هو المهندس الزراعي المتقاعد حسّان، كان يجلس علي طاولة مجاورة لهم يتابع حديثهم بشغف قائلا: أنا معجب بتفاعلكم مع هذا الحدث الذي أخذ أكثر من حقه واستغلّه تجار الدين لاستعادة ما فقدوه من سطوة بعد ظهور كثير من المتنورين الداعين لعودة الوسطية والتخلص من الوهابية الفاشلة التي خلقها أل سعود وصدّروها لنا والآن هم أنفسهم تخلصوا منها. ما قاله الشيخ مجانص أو الشيخ مبروك عطية أو غيرهما فيه بعض من الصدق والكثير من المغالطة. صحيح أن الشرع يحرم رقص النساء أمام الرجال ولكن، هي لم ترقص أمام أغراب فزملاء العمل أصدقاء ومعارف، ونسي الدعاة صحيح الدين الذي يدعو لغض البصر بمعني أن يكون الرجال رجالا إذا نظروا أن تكون نظراتهم طاهرة لا جنسية. كما أن نشر هذا الفيديو واستمرار عرضه فيه نوع من التشهير الذي نهى عنه الدين الذي يدعو للستر (من ستر مسلما ستره الله يوم القيامة)، أيضا (لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإن من يتبع عوراتهن يتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته)، وأيضا (من منكم يلا خطيئة فليرمها بحجر). هذا من ناحية ومن ناخية أخري الرقص تعبير فني سامي ورثناه كمصريين من أجدادنا الفراعنة حيث كان الرقص في المعابد جزء من العبادة والتضرع إلي الإله المعبود. وكنا قبل انتشار تُجّار الدين كمصريين لا ننظر للرقص في الرحلات الترفيهية هذه النظرة الدونية. أتذكر حينما كنت طالبا جامعيا في خمسينات القرن الماضي كنا نخرج في رحلات نيلية ترفيهية إلي القناطر الخيرية في مركبات معدة لذلك وكنا طلابا وطالبات ومعيدين وأستذة رجال وسيدات نغني ونرقص مع بعضنا البعض دون غضاضة أو خجل، ولم يقل لنا أحد في ذلك الزمن الجميل أن الرقص أو الغناء فيه شيئ من الحرام أو حتى العيب. ليتانا نعود إلي أيامنا الخوالي ونعود لوسطيتنا الجميلة وحبنا لبعضنا وننيذ الخداع والتصيد. لازم نتخلص من عادات وتقاليد عفى عايها الزمن خلاص. اللي شايف إنها غلطانة محتاج يتعلم من اول وجديد" أن بديهيّات وحقوق الإنسان مسألة شخصية" وان "تصوير الأشخاص بدون علمهم جريمة يعاقب عليها القانون".
وأنا كمواطن مثلكم لدي عدة أسئلة للسادة القائمين علي وزارة التربية والتعليم ووزارة التعليم العالي وللحكومة ككل ولا أجد إجابة شافية لها:
ـ لماذا الرقص أمام الناس فى الأفراح مباح ومقبول، ولكن فى أى مناسبة أخرى وأمام نفس الناس مستهجن ومرفوض ؟
ـ لماذا الرقص في اللجان الإنتخابية مقبول ومباح بل ومحبب، وهي سابقة لم نشاهدها إلا من عدة سنوات، للذكرى أغنية بشرة خير لحسين الجسمي التي رقصت عليها نساء مصر ورجالها أيام الانتخابات، ولكن الرقص فى رحلة ترفيهية تعتبرونه كارثة تحيل صاحبتها لتحقيق، يؤدي لرفدها من وظيفتها كمعلمة ؟
ـ لماذا تقبل وزارة التربية والتعليم الرقص فى الحفلات المدرسية والجامعات وتحاسب معلمة رقصت فى رحلة ؟
ـ لماذا تنفق الدولة على فرق الرقص الشعبى وتقيم مهرجانات له مادامت تعتبره تصرف خليع ؟
ـ لماذا تقبل الدولة الرقص فى الأفلام والمسرحيات وفى الفنادق والملاهي وتأخذ ضرائب باهظة من الإيرادات مادام الرقص جريمة يحاسب صاحبها ويطرد من وظيفته بسببها ؟
ـ لماذا يذيع تلفزيون الدولة مشاهد الرقص فى الأفلام والمسرحيات إذا كان محرما ؟
أنا فقط أتحدث عن إزدواج المعاير سواء على المستوى الرسمي المتمثل فى الدولة، أو على المستوى الإجتماعي، حيث يقبل أغلب أفراد المجتمع الراقصات ويحتفون بهن، ويقيموا الدنيا إذا أحترفت ابنتهم الرقص، فإذا نجحت وأصبحت غنية ومشهورة، سامحوها وتقبلوا الأمر، أما إذا فشلت فى الحصول على الشهرة والنجومية، تظل القطيعة بينها وبين أهلها، هل هذا منطق وكأن النجاح والشهرة جواز سفر لقبول نفس الفعل المرفوض !! إن كنتم تخافون على بناتكم وأبناءكم من الرقص، توقفوا عن هذه الإزدواجية العجيبة، إما أن تقبلوا الرقص كفن أو ترفضوه كخلاعة وقلة أدب فهذا هو العجب. غلطة مدرسة المنصورة التي تحاسب عليها، أنها رقصت فى مجتمع يحب الرقص فى السر ويعيش دور الفضيله فى العلن.
انبهر الواد عوضين بتعلق المهندس الزراعي العجوز وقفز واقفا وانحنى وقبل رأسه قائلا: براوة عليك يا ابا الحاج ، انت قولت الكلام الكبير اللي كنت عاوز أقولة لكن ماعرفتش لمحدودية تعليمي أن أقوله. وبعد ما خلّص كلامه وسمع ما تيسر من الاستحسان من شلة الأنس اللي حواليه، ارتاح ضميرة واتنهد تنهيدة حارة وبرطم وقال في سره وهو ينظر لهم: قبر يلم العفش...!!