بقلم المهندس: باسل قس نصر الله
لا يجبُ أن ننخدع من الكرنفالات الخطابية والقبلات الشكلية واللقاءات والإبتسامات والصور الزاهية التي تجمع بين بعض رجال العلم الإسلامي والدين المسيحي بشكل خاص أو رجالات الأديان الأُخرى بشكل عام، والتي غالباً ما كانت تغذّيها حكومات لم تَفهم الخوف الحقيقي لدى المسيحي في المجتمع الإسلامي، فبقي دعمها يقع ضمن هدف تحسين صورتها واستخدام الورقة المسيحية في لعبتها السياسية، ولم يَصعُب عليها أن تَجد من يُساعدها – مدفوعاً بالحصول على بعض المكاسب – في تنفيذ نظرتها قصيرة المدى، وأعني منهم بعض رجال الدين المسلمين والمسيحيين أو المتسلقين والنَكِرات غير المُعرَّفَة الذين يرغبون أن تمنحهم هذه الحكومات بعض المناصب و "ال" التعريف.
هناك توجّس – مهما حاولنا إنكاره – مبني على الخوف المسيحي الدفين منذ أكثر من ألف عام، يُغذَي ذلك صور التطرف الذي رافقته اضطهادات، منها المجازر التي وقعت في بدايات القرن العشرين في أيام العثمانيين وانتهاء بالفترة الحالية التي ظهر فيها التطرف المبني على تبرير استخدام الإرهاب تحت ستار الدين. حتى وصل البعض من المسيحيين الى قناعة وكأن كل المسلمين يستعدّون لشنِ حملة اضطهادٍ على المسيحيين في أي لحظة، الأمر الذي يُنكره العقلاء، وكل من يَفهم ما معنى الوحدة الوطنية والإخاء الديني والعيش المشترك.
في الماضي كان هناك بعض التفاعل الإيجابي بين مختلف الأقوام والأديان من مسلمين ويهود ومسيحيين على الرغم من وجود المشاكل بالطبع. ولكن فيما بعد هاجرت كل الأقليات بعد أن لمَسَت وسمِعت من البعض – غير العقلاء – عن تمنياتهم بمغادرة هؤلاء المسيحيين للبلاد، وخسرت المجتمعات العربية الإسلامية نتيجة ذلك، كل هذا التفاعل الحضاري والإنساني مع الآخَر المختلِف، وهي خسارة لا تُعوَّض.
كما زاد في تحفيز المسيحي على الهجرة، أنه شاهد مظاهر الأصولية الإسلامية تنتشر في المجتمع، مثل انتشار التعليم الديني، بشكل مدارس دينية تقدّم، في أكثر الأحيان، تعليماً متطرفاً وحرفيّاً ومتزمّتاً، إضافة للحماس الديني في الممارسة وفي الدعوة، تأسيساً على اعتقاد بأن كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه، أو ينصِّرانه - والفطرة هنا معناها: التهيؤ لقبول الإسلام -، لذلك خاف هذا المسيحي – محقٌ أو مخطىء - من ردّه الى الإسلام لأن "الدين عند الله الاسلام" كما لمَس هذا المسيحي إنتشار مظاهر المجتمع الإسلامي كما كانت في القرون الأولى لظهور الإسلام في اللباس والمأكل والمشرب والعادات وحتّى في الاثاث المنزلي.
إن المسيحي، بنوع خاص – في المجتمعات ذات الغالبية الاسلامية – هو ضحية عقدة الخوف من الديمقراطية، لأنه يعرف أن الديمقراطية في النتيجة هي حكم الأكثرية ولذلك فهو يتوجس ريبةً من المسلم الذي يطالب بالحكم باسم الأكثرية، مع تهميش هذا المسيحي، أو تسليمه مناصباً لغرض الفولوكلور لا أكثر.
لقد وقف بعض المسيحيين، أفراداً وجماعات، حيال الإسلام موقف الخوف، أو الحذر، أو الإنعزال والإنكماش إما على الذات والامتناع عن الانخراط في المجتمع "وهو في أكثريته مجتمع إسلامي" وعيش مشاكله والمشاركة في آماله وتطلعاته "مشكلة التخلف والنمو، مشكلة التبعية والإستقلال، مشروع العروبة والتطلع الوحدوي" وإما التطلع الى الخارج أي الى الغرب، والإستقواء به "سواء مباشرة أو بطريقة غير مباشرة" وهذين الأمرين مرفوضين بالنسبة لي. هنا توَّجَهَ المسيحي في السابق إلى الهجرة، "اليوم أصبحت ظاهرة الهجرة خطيرة لأن الذي يغادر لا يعود" وتوجه اليوم – نتيجة الأحداث في المنطقة والإنتباه بأن الهجرة تَطال المسلمين أيضاً- مدفوعاً بالخوف من عدم الاستقرار الأمني والإجتماعي والإقتصادي والسياسي، وليس مدفوعاً بخوفه من المسلم بشكل منفرد، بقدرِ الخوف من الأُمِّية الإسلامية ومن الإسلام المتعصب، فبالنسبة الى المسيحيين، يتمحور الخوف حول مسألة إقامة نظام إجتماعي سياسي إسلامي يكون له نتائج على أوضاع غير المسلمين وعلى حرياتهم.
مازالت هنالك الى الآن أسباب تدعو الى هجرة المسيحيين من المنطقة، وواحدة من هذه الاسباب عقدة الشعور بالخوف من المستقبل، فأمام التيار الأصولي المتنامي والانتشار السريع له في البلاد العربية والإسلامية، يتنامى الشعور بالخوف من المستقبل ومن استمرارية روح العيش المشترك بين المسيحية والإسلام تغذيه تقصير بعض الحكومات والأحزاب التي لم تُبحر في عمق الخوف المسيحي، وربما يكون هذا العامل النفسي غير صحيح، لكنه في الواقع موجود.
إن على المجتمع ذي الغالبية الاسلامية وعلى المسلمين بالأخص، طمأنة المسيحيين على - مشاركتهم الفعّالة وليست الشكلية - في هذه المجتمعات كمواطنين كاملي المواطنة، إضافة الى كل ما طرحته سابقاً، وهذه الطمأنة لا تأتي خلال شهر أاو أكثر بقدر ما يلزمها الكثير والكثير من السنوات، وإلا فإننا سنتوجه الى مجتمعات شرق أوسطية خالية من المسيحيين.
أما أنا فلسان حالي يقول مع توفيق زيّاد: لن نرحلْ إنَا هنا لنا ماضٍ وحاضرٌ ومستقبلْ