محرر الاقباط متحدون
كتب عمرو فاروق الباحث فى الشؤون الاسلامية حول ملامح الصراع السلفى الصوفى فى مصر وقال العلاقة بين مكوّنات الإسلام السياسي الحركي، بتوجهاته المذهبية القطبية، وبين المنهجية الصوفية الروحية، عدائية على مدار التاريخ المعاصر، الذي كان سجلاً شاهداً على معارك تكسير العظام بينهما على المستوى الفكري العقائدي والسياسي الاجتماعي.
منذ تشكل التيار السلفي التقليدي في واقع الحالة المصرية (نموذجاً)، تحوّل ظهيراً فاعلاً وبيئة خصبة للجماعات الأصولية المسلحة من "القاعدة" إلى "داعش"، لتبنّيه خطاباً مرتكزاً على معاداة النظم السياسية، وانتقاده الدائم للمجتمع وسلوكياته التي لا تتفق مع أطروحاته، في مقابل الأدبيات الصوفية المرتكزة على تصفية النفوس وتزكيتها بمسالك روحية متشعبة، ودعمها مفاهيم الدولة الوطنية، ومناهضتها لمصطلحات التكفير وجاهلية المجتمع، ومشاريع الأممية الإسلامية.
كثيراً ما وجّه دعاة التيار السلفي هجومهم وسهامهم الطائشة تجاه الصوفية ورموزها، طعناً في عقيدتها ومنهجها السلوكي، لا سيما في ظل ارتباطها بالعوام والبسطاء، واتهامها بسطحية المنهج العلمي والشرعي، برغم أن غالبية قادة الأزهر الشريف وعلمائه ينتمون الى المنهج الصوفي الأشعري.
ثمة معركة دائرة في المرحلة الراهنة، أشعل نيرانها أتباع التيار السلفي التقليدي، بالهجوم على الداعية جابر بغدادي، المنتمي إلى المدرسة الصوفية الحديثة المعتمدة على ما يعرف بـ"التصوّف المتشرع"، في إطار منهجي علمي جامع بين ضوابط العلوم الشرعية، بعيداً عن الإسهاب في طرح علوم الحقيقة الباطنة، أو الاتكاء على كرامات الكشف والإلهام والرؤى، أو ما تعرف بـ"علوم الولاية"، خلافاً للمدرسة القديمة المتجذرة في عمق المجتمع المصري، وتضم أكثر من 80 طريقة صوفية، وتتميز بطقوسها الأشبه بالفولكلورية في تربية أتباعها ومريديها.
الى جانب الاتجاه التقليدي المتبع في مختلف الطرق الصوفية المصرية من مسالك التربية الروحية وحلقات الذكر والمديح النبوي وقراءة الأوراد والأذكار، اعتمد الشيخ جابر بغدادي في منهجيته على لون مختلف يمثل تجديداً في مسارات التأثير والتأثر السلوكي على المستوى الفكري والروحي، بين مريديه وتلاميذه من خلال خطاب دعوي حماسي متسق مع مقاصد الشريعة وضوابطها، مغلّفاً برداء السهل الممتنع، ما مكّنه من مخاطبة وجدان جماهيره المتنوعة من البسطاء والعوام والمثقفين وعقليتها.
الضوابط اللغوية والبلاغية الواردة في المنهجية الخطابية السهلة للشيخ جابر بغدادي تسقط عنه اتهامه بالاعتماد على النسق الارتجالي الشعبوي، لتنوّعه في بناء مفرداته الكلامية في لقاءاته المتعددة والمنتشرة على وسائل السوشيال ميديا، التي تلقى قبولاً واستحساناً بين الدوائر المجتمعية المصرية والعربية.
انطلق الشيخ جابر بغدادي، من محافظة بني سويف جنوب القاهرة، محوّلاً مقر مؤسسة "القبة الخضراء"، التابعة للطريقة الخلوتية الجودية، منبراً لنشر منهجيته الصوفية، مؤثراً في الكثير من أبناء العائلات الكبرى في محافظات الوجه القبلي، بعدما كانت مرتكزاً للجماعات الأصولية المسلحة، لا سيما الجماعة الإسلامية التي توسعت في وجودها في صعيد مصر منذ ثمانينات القرن الماضي.
في خطابه الوعظي، يفرد الشيخ جابر بغدادي الحديث حول دعوات الوصال والمحبة والقرب من الله ورسوله وآل بيته الكرام، فيكتب على موقعه الشخصي: "أنا لست عالماً أو فقيهاً ولا شاعراً إنما مؤذن "حي على الوداد"، لأجمع الخلق بالحب على الحق، فنحن إلى الحب أحوج من كثير من علوم فرّقت إجماع الأمة".
انضمّ الشيخ جابر بغدادي إلى نقابة قُراء القرآن الكريم، بعد حفظه كتاب الله تجويداً، وجمع بين دراسة اللغة الإنكليزية وآدابها في كلية الآداب في جامعة بني سويف، ودرس التاريخ الإسلامي، وتلقى العلوم الشرعية وعلوم التصوف السني، على يد الشيخ الدكتور جودة عبد العليم البكري أحد علماء الأزهر الشريف، ودرس السيرة النبوية المطهرة، وحصل على 21 إجازة بالسند في علم الحديث، على يد علماء المدينة المنورة في المملكة العربية السعودية.
يعتبر الشيخ جابر بغدادي الأقرب إلى المدرسة الصوفية الحديثة المعروفة بـ"الصوفية المتشرّعة"، التي يمثلها الدكتور علي جمعة مفتي الديار المصرية السابق، ومؤسس الطريقة الصديقية الشاذلية، في مايو 2017، ويقع مقرها في مسجد "فاضل" في مدينة "6 أكتوبر"، وكذلك الشيخ أسامة الأزهري، مستشار الرئيس عبد الفتاح السيسي للشؤون الدينية، والداعية اليمني الشيخ الحبيب علي الجفري، رئيس مؤسسة طابة للدراسات الإسلامية في دولة الإمارات، ومؤسس خلوة "روضة النعيم" في منطقة الحسين في القاهرة، والداعية الصوفي اليمني الحبيب عمر بن حفيظ، الذي اعتاد زيارة القاهرة والالتحام بمشايخها وخلواتها.
ويمثل المدرسة الصوفية الحديثة أيضاً، الداعية الدكتور يسري جبر، الجامع بين علوم الطب وعلوم الشريعة، ويتخذ من مسجد "الأشراف" في المقطم، مقراً لإلقاء دروسه والالتقاء بمريديه، والدكتور محمد عوض المنقوش،الذي يحظى بشهرة كبيرة بين علماء الصوفية في مصر وليبيا، ويعدّ من رموز الطريقة الشاذلية التي أسسها الدكتور علي جمعة، وأحد المختصين بتدريس علوم التصوف السني ومبادئه، وكذلك الدكتور محمد مهنا، أستاذ الشريعة والقانون في جامعة الأزهر، ومستشار شيخ الأزهر والمشرف على الرواق الأزهري، ومؤسس أكاديمية "البيت المحمدي".
وينتمي الى المدرسة الصوفية الحديثة، الدكتور عمرو الورداني، أمين الفتوى في دار الإفتاء المصرية، والدكتور مجدي عاشور مستشار مفتي مصر، والدكتور جمال أبو الهنود، مستشار وزير الأوقاف الفلسطيني.
يعتبر من أهم رموز المدرسة الصوفية العلمية التي لم تكن تحظى باهتمام شعبي واجتماعي بالغ منذ نشأتها، شيخ الأزهر الشريف الأسبق، الدكتور عبد الحليم محمود، والشيخ محمد متولي الشعراوي، والشيخ محمد ذكي الدين إبراهيم، شيخ العشيرة المحمدية.
البساطة الدعوية والضوابط الشرعية للصوفية الحديثة، كانت سبباً في إقبال العديد من الشباب للانخراط في مجالسها والارتماء في حضراتها والتشرب من منهجية مشايخها الروحية، لا سيما أنها تمكنت من احتواء عدد ليس بالقليل من ذوي المسحة السلفية، في ظل سقوط المشروع الأصولي الراديكالي في قلب القاهرة والمنطقة العربية.
أخذت المدرسة الصوفية الحديثة على عاتقها الوقوف بقوة أمام الأطروحات التكفيرية القطبية، والحد من تأثيرها وانتشارها بين القطاعات الشبابية عامة، وفي عمق المدرسة الأزهرية بخاصة، والتي تأثرت لفترات طويلة بالسلفية الوهابية، وكانت عاملاً في تباين المواقف والآراء للمنظومة الدعوية الأزهرية ورجالها.
استطاعت المدرسة الصوفية الحديثة جذب عدد من الدعاة الجدد إلى بوتقتها الفكرية، أمثال مصطفى حسني، الذي أطلق سلسلة "خدعوك فقالوا"، والداعية عمرو مهران، والمنشد مصطفى عاطف، والداعية الشاب أحمد جمال البنا، المهتم بتفكيك المنظومة الفكرية للجماعات الأصولية، مؤلف كتاب "الأوهام الخمسة".
تسببت الصوفية الحديثة التي يمثلها الشيخ جابر البغدادي، والدكتور يسري جبر، تحديداً، في حالة من الإزعاج للسلفية الشعبية، إذ إنهما يمتلكان أهم الأدوات التي اعتمدها التيار السلفي على مدار تاريخه المعاصر، متمثلة في توظيف "المنابر"، واستثمار قدرتهما الإلقائية للخطاب الشرعي المتزن في جذب الجماهير العريضة واتساع شهرتهما جغرافياً، من دون التطرق للعلوم الباطنية المتعدية لنطاق ومستوى العقل البشري فهماً واستيعاباً.
يميل الكثير من المعنيين بملف مكافحة الإرهاب الفكري، إلى تصدير التصوف العلمي ومنهجيته الروحية المنضبطة شرعياً وسلوكياً إلى عمق الشرائح المجتمعية، لما يمثله من صمام أمان مانع أمام تغلغل الجماعات الأصولية وقضاياها وأفكارها في صلب الشارع المصري.
نجاح الدولة المصرية في مكافحة الإرهاب مهّد الطريق أمام المدرسة الصوفية الحديثة للانتشار في جبنات المجتمع، في ظل تقليص المساحة الجغرافية والاجتماعية للجماعات الأصولية بعد سقوطها سياسياً وتخبطها فكرياً وتفككها تنظيمياً.
لكن على الجانب الآخر، استثمرت السلفية التقليدية الظروف السياسية في الداخل المصري بما يضمن بقاءها واستمراريتها، لا سيما "السلفية السائلة" الملتحمة مع الطبقات الشعبية، والتي لا تزال تحتل حيزاً ومساحة في العقلية الجمعية المصرية، ولا يمكن تغافل دورها النشط والخفي، ما جعلها تخوض مواجهة مباشرة مع "الصوفية العلمية"، عبر عدد من ممثليها على مواقع التواصل الاجتماعي وشبكات اليوتيوب.
اتسام المدرسة الصوفية الحديثة في القاهرة، بالضوابط العلمية الشرعية، منحها جمهوراً متعدداً فكرياً وثقافياً واجتماعياً، بعيداً عن طبقات العوام والبسطاء، ووضع التيار السلفي في حرج بالغ، إزاء هجومه الدائم على المتصوفة واتهامهم بالجهل والتبدع الديني.
في خروج عن النص المعتاد والمتبع داخل الطرق الصوفية التقليدية، تحولت ساحات المنابر والخلوات الخاصة بمشايخ المدرسة "الصوفية العلمية" إلى بوتقة لصهر مخلتف الحواجز بين أبناء الطرق الصوفية، نهلاً في التلقي العلمي والترقي الروحي، من دون قصرها على مريديهم وأبناء طريقتهم وعمومتهم، مع احتفاظهم ببيعتهم لمشايخهم ومرشديهم.
وثقت المدرسة الصوفية الحديثة، علاقتها بعدد من فرق الإنشاد الصوفي، التي مزجت بين فن الابتهال الديني بالأسلوب التقليدي وألوان الموسيقى الغربية والشرقية، مثل فرقة "الحضرة" التي تأسست مطلع عام 2015، وفرقة "المولوية" المصرية التي أسسها عامر التوني عام 1994، وفرقة "المرعشلي" السورية التي تأسست عام 1980، وانتقلت الى القاهرة منذ عام 2012، وفرقة "الإخوة أبو شعر" السورية، التي تأسست عام 1983 ثم انتقلت للقاهرة عام 2012.
لم تزعج الصوفية الحديثة التيارات السلفية وحسب، لكنها أرّقت منام قيادات جماعة الإخوان المسلمين، الذين شعروا أن المد الصوفي، سيصنع بجماعتهم ما لم تصنعه الأزمات، في ظل ارتماء عدد من شبابها إلى أروقة وخلوات الطرق الصوفية، وارتباطهم بمشايخها، ففي إحدى الوقائع التي سجلتها المرحلة التاريخية بين عامي 2009، و2010، وتسببت بأزمة حادة داخل جدران المكوّن الإخواني، إثر انتماء عدد من شباب الجماعة الى إحدى الطرق الصوفية، تعلقاً بالمد الروحي، ما صنع إشكالية الخلاف حول بيعة المرشد، وبيعة الشيخ، أو ما يعرف بـ"ازدواجية البيعة"، لتنهي الجماعة موقفها بفصلهم نهائياً، رفضاً للدخول في الجدل الفقهي والشرعي حول "البيعة التنظيمية" و"البيعة الروحية".