د. ياسر عبد العزيز
يحلو لكثير من المفكرين والمحللين تفسير بعض المشاحنات والمشاكسات الطائفية التى تضرب مجتمعنا من آن إلى آخر على أنها من تجليات العقل الأحادى المُغلق، والتعليم الردىء، والتنشئة التقليدية، ونزعات التطرف الكامنة فى الأعماق كنتيجة لتراكمات القرون والممارسات الإقصائية والاستعلاء المتدثر بالدين.
لا أجد سببًا وجيهًا لتجاهل تلك الأسباب حين نتحدث عن شيوع قضايا مثل جواز تهنئة الإخوة الأقباط بأعيادهم، أو حرمة الاحتفال بـ«شجرة الكريسماس»، أو إمكانية تخصيص مدافن لغير أتباع «الديانات السماوية»، أو زواج وطلاق أتباع الطوائف والديانات المختلفة.
تُطرح هذه القضايا، وغيرها الكثير من المتشابه معها، على فضائنا العام بانتظام، وفى أحيان عديدة تتصدر قائمة الأولويات، وتُنصب لها ورش عمومية وخاصة للتقصى بشأنها، توخيًا للقرار «الأسلم للعقيدة» و«الأنسب للإيمان». لا أرى سببًا لانتقاد النُقاد الذين عزوا تصدُّر تلك الأولويات قوائم الانشغالات الوطنية إلى الأسباب السابق ذكرها، ومع ذلك، فسيمكننى أن أطرح طرحًا مغايرًا. من جانبى، أعتقد أن الإشكال الذى تتمخض عنه تلك الانشغالات، بما تستتبعه من تكاليف الهَدْر ومُحفِّزات الفتن وعوامل نقض الاستقرار، يتعلق فى الأساس بالخلط المستديم بين مفهومين فى فضائنا الوطنى؛ أولهما هو مفهوم «الأمن الروحى»، وثانيهما هو مفهوم «الوعى الروحى». فأما مفهوم «الأمن الروحى»، فسنجد له عددًا من المعالجات النظرية التى قد تعود إلى هيجل ومدرسته، التى ترى الدولة على أنها «الروح وقد تموضعت»، إضافة إلى ميراث ضخم من الممارسات العملية منذ فجر الأديان وتدشين عهد الدولة، وكلها تمحورت حول فكرة أن هذا الأمن إنما يتحقق عبر السيادة المذهبية والوحدة الدينية والفهم الروحى المشترك، الذى يُصان من النقض ويُحمى بالعسف أو القانون.
.. لذلك، فإن تاريخ العلاقة بين الدين والدولة على مدى قرون طويلة سيمكن أن يكون أيضًا تأريخًا لرحلة البحث عن «الأمن الروحى» المفترض، عبر تسييد فهم معين للدين، وتبنِّى نسق اعتقادى خاص، تتبعه ممارسات اجتماعية وسياسية محددة، ثم محاربة أو شيطنة أو إقصاء كل آخر لا ينطوى ضمن هذا الفهم المنشود والوحدة المأمولة.
لم يصنع هذا أمنًا روحيًا على مدى القرون، ولن يصنع هذا الأمن، وستستمر المآسى والفتن والحروب، وستتعمق الكراهية ومعها الإقصاء، وفى غضون ذلك، ستجد بعض الدول الأكثر رشدًا مقاربة جديدة لا ينقصها الاضطراب بطبيعة الحال، لكنها برهنت فى صورها الأكثر تكاملًا عن نجاعة.
والصورة المبتغاة تنطلق من مفهوم «الوعى الروحى» وتتأسس عليه، لكن ليس بمعناه الذى يقترحه «جريج لورنس»، أو بعض الروحانيين الشرقيين، أو مُنظِّرى الصوفية، بوصفه «ارتقاء شعوريًا يُعزِّز الإدراك ويُهذب النزعات الإنسانية»، ولكن بالمعنى الذى أقترحه هنا؛ أى بوصفه مفهومًا موازيًا لفكرة التدين من جانب، وناقدًا لفكرة «السيادة المذهبية» من جانب آخر.
وببساطة شديدة، فإن ما أراه جديرًا بالطرح على الفضاء الوطنى راهنًا فى هذا الصدد يتعلق بالنظر إلى «الوعى الروحى» باعتباره إنهاءً للخلط المُسىء بين السياسى والدينى، ونقضًا لفكرة أن مرتكز الدولة يكمن فى الوحدة الدينية أو تكريس رؤية محددة لـ«دين العموم».
يجب ألّا تقوم الدولة فى إطار تبنِّيها مفهوم «الوعى الروحى» بأدوار فى صياغة الفضاء الدينى للأفراد، وإنما يكمن دورها المطلوب والمفترض فى حماية هذا الفضاء، واحترام ضمير الفرد وكرامته الإنسانية وحقه فى الاعتقاد، ثم صيانة هذا الحق وإتاحته، مادام ذلك لا ينطوى على ضرر للمصلحة العامة ولا يتغول على حرية الآخرين وكرامتهم.
و«الوعى الروحى» هو أن تَعِى الدولة والمجتمع والإنسان الفرد أن حرية الاعتقاد مكفولة، وأن ممارسة الشعائر الدينية مصونة، وأن التصورات الدينية لا يجب أن تنعكس فى تقييم المراكز القانونية والمعنوية للمواطنين، ولا ينبغى أن تتحول ميزة أو قيدًا، إلا إذا أضَرّت بالمصالح المَرْعِيّة.
نقلا عن المصري اليوم