Oliverكتبها
نظر الرجل حوله .لم يجد أحداً .إنطلق في طريقه و مضي.تعمد ألا يسأل أحداً و ألا يسأله أحد عن وجهته.قدماه تتركان آثار رجل مجهد.يعرج قليلاً في مشيته تسنده عصاه.ترسم إثر خطواته علامات واضحة من الأوجاع.
نظر الرجل إلي السماء كأنما يقرأ خريطة الطريق.لم يكن هناك نجم يرشده.لقد إختفت النجوم منذ ألفي عام.حتي السماء لم تعد صافية ليري فيها أي نجم.
صلي الرجل طالباً أن يجد الباب مفتوحاً. لست أدري أي باب يقصد هذا الرجل.لكنني أراقبه لأسجل رحلته.شيئاً ما يجذبني إلي الرجل.ربما صمته؟ ربما عيناه الغائرتان المنغلقتان كمن يمسك صيداً يخشي أن يفر منه؟ ربما لأنه لا يبدو مثلنا.هذا رجل من الشرق.يلبس ثوباً إندثر من أحياءنا.يلف رقبته بشريط عريض من الكتان.و حول عصاه كتابات من لغة قديمة. يحمل كتاباً و كلما أجهده المسير يفتحه و يتكأ عليه.يرمق بعينيه بعض الكلمات و يمضي كمن عاد إليه شبابه فينطلق مسرعاً و أنا أتبعه جاهداً.
يقف الرجل فجأة.تبدو علي قسماته علامات الدهش.لعله يبصر شيئاً ما لا أبصره أنا.يجيب علي سؤال لم أسمعه و لم أر أحداً سأله.ينطق بصوت أسمعه بوضوح.ها هو يقول.نعم يا سيدي و أنا أرجوك أن تشفع لعلي أجد الباب مفتوحاً.ها قد تركت خيمتي و لن أعود؟أعرف أن ثلاثتكم ههنا.تعرفون الطريق و ليس مثلي.أنا معكم الآن.لم أعد في خيمتي.
ما كنت أظن أن أناساً لا زالت تحيا في خيام.لكن هذا الرجل العجيب يقول أنه ترك خيمته؟ربما قصد أنه ترك جسده ليصير في الروح؟ربما.
دقائق و أبصرت رجالاً و نساءاً ,شعباً كثيراً خارج من كل الأنحاء.يحمل الصغار منهم و الكبار عصا صغيرة.فقط عصا.تخرج من عصاهم بروق .يهتفون ترنية أشبه بترنيمة مريم النبية أخت موسي.هل هذا خروج آخر ؟خروج جديد؟مَن هؤلاء و لماذا يخرجون من مصر؟و إلي أين يتوجهون؟ كلهم يحملون عصياناً كعصا موسي؟ تشير عصواتهم أنهم نحو الشرق متجهون.ليس في سيمائهم ملامح اليهود.
كانوا ينشدون نشيداً عميقاً.و من ترنيمتهم يبدو الصبر و النغم الحزين.
مضت ساعات طوال كان الشعب يتقارب كمثل العظام التي رآها يشوع حتي صار كجيش عظيم جداً جداً.هذا الشعب يذكرني بإسرائيل عند خروجهم .شعب يتصرف كشعب الله في كل شيء.في الفرقة و الوحدة.في الموت و الحياة.
نظر الرجل نحوي قائلاً أتري؟ الموت عندهم ليس كما تعرفه.و لا الضعف كالذي تفهمه. حتي لو لم يبق فيهم روح.و لو صاروا عظاماً فحسب فلا تفقد رجاءك فيهم.سيهُب الروح عليهم و به يتنسمون حياة جديدة.يتحولون من موت إلي حياة.من وهن إلي جبروت.من عظم هش إلي جيش رهيب. ثم ختم حديثه إليً قائلاً : يا إبني أنت لا تعرف سر الأشياء.هؤلاء مسيحيو الشرق.
نظرت في كل الأنحاء فلم أبصر أحداً .إبتسم الرجل المجهد فجأة؟لعل أحد أجاب مطلبه؟ أنا في الحقيقة لم أبصر شيئاً.
فجأة قذف الرجل عصاه.دارت بعيداً.رسمت فوق الرمل شيئاً مخيفاً.أدرت رأسي لكي لا أبصر العصا.
كنت أود أن أحمل عصا و أتبعهم.وجوههم تنبأ عن وعود مفرحة.ليس هناك فيهم ملل الطريق.آه...تذكرت أنني كنت أحمل مفكرةً في حقيبتي.بل نسيت الآن حتي أين حقيبتي.كانت ذاكرة تجمع قصص الطريق و أسماء الرواد الأوائل.بها حكايات و عِشرة.بها عمالقة فارقونني لكن بصماتهم في الذاكرة في حقيبتي الضائعة.مفكرتي بها كل أشكال الخطوط.المستقيمة و المائلة و المتعرجة .بها الخطوط السوداء و البيضاء و الحمراء و كل ألوان الذكريات.كنت أود أن أحمل مفكرتي عند خروجي.لعلي أقابل الطفل العجيب و أضعها بين يديه.آه ...الآن فهمت.هذا الرجل متجه صوب الطفل .إنه لا يعرف أين المغارة.و هذا الجمهور أيضاً مثله.كلهم خارجون إلي الطفل.كلهم تاركون إلي أرض الطفل.الموعد الذي صار من الآب للأرض.ما سر الثلاثة رجال إذن؟
سألت الرجل و قد إنتابتني إنفتاحة عقل و إبتدأت الأحداث تتكشف أمام عيني.
هل أنتم ذاهبون للطفل؟قال نعم.قلت و هؤلاء أيضاً ؟ قال نعم. قلت و أين ذهبوا؟ قال إلي الأرض البعيدة.حيث أرض الطفل.قلت و لماذا يحملون عصا فحسب.قال ليختبروا إختبار موسي كل واحد بنفسه.خرجوا مثل موسي لم يحمل إلا عصاه.منذ مولد المسيح لم تعد العصا لموسي وحده.لذا يحمل كل واحد عصاه و يختبر إنفتاح الأفق و إنشقاق البحر و قيامة العظام.قلت و كيف هي عصواتهم منيرة هكذا؟ قال لأن هذه فيها أفكار الإنسان.بحسب دواخلهم تصير عصاهم .بإيمانهم تصبح العصا نجماً أو مناً أو سيفاً أو قلماً .كل ما فيهم في العصا.
و ماذا ستقدمون للطفل يا سيدي؟ قال سيقدم كل واحد هديته كما يشاء.لقد إتفقنا جميعاً أن نقدم للطفل هديته.قديماً قدم الكبار ذهباً و لباناً و مراً.الآن نحن نقدم صبراً و عمراً و وطناً فالطفل لم يزل يقبل الهدايا.لم يزل يرشد زواره.لم يزل ينير الطريق لقاصديه.
قلت للرجل ضاعت مفكرتي.لم أعد أعرف شيئاً.قال لي هون علي نفسك فالطفل يعرف كل شيء و قد أنساك الدنيا حتي ترثه.
قلت و من هناك يتبقي في الشرق؟ قال قليلون و لكنهم يكفون ليصيروا شهوداً؟ قلت و هكذا ترك الباقون مصرو لبنان؟قال بل تركتهم مصرو لبنان .أنظر؟؟؟ نبهني أمره بأن أنظر فوجدت موضع كل الذين خرجوا من الشرق شاغراً لا يستطيع أحد أن يملأه سوي الخارج منه.كان هناك وميض ينبعث من كل المواضع.
قلت للرجل أليسوا عائدون بعد زيارة الطفل؟ قال بشجون ....يا إبني نحن سائرون في طريق راحيل حتي نصل أفراته.قلت أعند قبر راحيل ذاهبون؟ قال نعم.
فهناك للأسباط يعقوب أباً و أما أسباط مصر و الشرق أو أقباط مصر و الشرق فيعقوبها هو المسيح.و إليه تذهب.لذا تري هؤلاء إليه ذاهبون.
إضطربت من إجابته.حين عرفت أن هؤلاء ماضون بلا عودة.نظرت إلي مصر من جديد..رأيت أرضها تنفرك مثل السنبلة في يد الفلاح.إلي أجزاء عديدة تفتت.
سألته أتعرف يا سيدي ماذا بعد؟ قال أعرف.قلت ماذا إذن؟ هل تتلاشي السنبلة؟ قال لا.بل يفتقدها طفل المزود بعد زمان تأديبها. و تكون كحبة الخردل في ثمارها.قلت و لماذا يهجرها أسباطها؟ قال هم أيضاً يفتديهم الرب و يتأدبون.إذ صنعوا في أرض العبودية أصناماً و عبدوها.قلت لا سيدي .مسيحيو الشرق لم يعبدوا أصناماً ...قال بل عبدوا.البعض صنع من نفسه آلهة و البعض عبدوها و هذا و ذاك يخرجوا منها تأديباً و لكن الرب لن يفنيهم.قلت و من تبقوا فيها؟ قال كخميرة مقدسة يكونون و يختمر بهم العجين كله.قلت آمين.
ثم تداركت قائلاً و ماذا ستقول للطفل حين تحضره؟ قال سأتأكد مع رفقائي أن كل الخراف حاضرون أمامه لم يضل منهم واحد.
دارت بي رأسي كمن يترنح .فإذا بثلاثة من الملوك مهيبو المنظر قد ظهروا.كانوا حاملين ذهباً و لباناً و مراً .لم يجد أحد صعوبة في التعرف عليهم.
تقدم حامل الذهب و وجهه نحو الجمهور الخارج من بغداد و الشرق قائلاً: كل من يحمل ذهباً فليرفعه إليَ ههنا.....كرر الملك تنبيهه...هل لديكم ذهب ؟؟؟ قال البعض نعم...تقدموا في خجل و ألقوا ببضع من الحلي الضئيلة في صندوق الرجل.و البعض ألقوا قطرات دماء تناثرت بين المذابح.كان مشهدهم أليماً.
تقدم حامل اللبان و وجهه نحو الجمهور الخارج من لبنان و الشرق قائلاً: كل من عنده لبان فليأت به إلي ههنا....كرر الرجل تنبيهه.....هل لديكم لبان؟؟؟؟قال البعض نعم....تقدموا في حجل و ألقوا بعضاً من بخور الصلاة في صندوق اللبان عند قدمي الرجل.كان لبان البعض مختلطاً بقطرات من الدموع .و كان مشهدهم مهيباً.
تقدم المجوسي الثالث و وجهه نحو الجمهور الخارج من مصر و الشرق قائلاً : كل من عنده مر فليأت به إلي ههنا...تردد الشعب.كرر الرجل تنبيهه...هل عندكم مر؟؟ قال الجميع بأعلي صوت نعم ...تدافعوا ليلقوا بالمر في صندوق المر ....كان أكبر صندوق..... ألقي مسيحيو الشرق كل مراراتهم فيه.لم يفرق واحد بين المر و بين المرارة. كانوا في بغداد يتوجعون و في لبنان يتألمون و في مصر يدخرون المر ليحنطوا موتاهم....لا حاجة إليه بعد فالمسيح سيمنحهم حياته الأبدية و لا حاجة للحنوط فيما بعد.
وقفت لأتأمل ماذا بعد؟؟ إختفي الثلاثة حاملي الذهب و اللبان و المر...و إختفي الشعب.. و بقيت أنا و الرجل وحدنا...
سألته و ماذا بعد يا سيدي ؟أنا ما زلت أحمل بعضاً من هداياي فماذا أفعل...فتح الرجل يده.كان فيها مثل بللورة صغيرة لم أرها من قبل.كنت كلما أضع فيها شيئاً تتسع و يختفي الشيء.وضعت فيها اشياءاً كثيرة.كلاماً و مشاعر و حكايات.وضعت اياماً و أياما.وضعت أيضاً سكوتاً و ضعفاً و قوة.وضعت خجلاً و خزياً و جرأة.كانت البلورة تسع كل شيء.إتسعت لكل قصة حياتي.
أخذت قراراً أخيراً ....قلت أضع نفسي في البللورة.حتي لو كان ذلك يعني أنني آخذ نفسي من نفسي و أهديها للطفل الإله يسوع.حتي و لو كان ذلك يعني موتي في يديه.قلت في نفسي قبل أن تفارقني نفسي ,روحه فيَ يكفيني.و إنتزعت نفسي من نفسي و أودعتها في البللورة و أوصيت الرجل أن يذهب عني سريعاً لئلا أتراجع .قلت له إمض بسرعة.خذ البللورة للطفل..حين تجد مزوده ضعها إلي جواره في صمت..هو يعرف كل شيء..أسجد له و ضعها بين يديه .ضع رأسي عنده...أنا لن أقابل غيرك حتي غروبي....أنت المجوسي الأخير الذي أعرفه.و مضيت عنه مسرعاً ....مضيت لا أدري إلي أين.
عدت باكياً.....ملأني طريق العودة بترانيم الريح و الأشجار. بجمال الصمت و رهبة السكون.كانت الدموع تتدحرج علي وجنتيَ.ذكرت اللؤلؤة في يد المجوسي الأخيرو أنا أسمع من بعيد أجراس العام الجديد.....وإنتبهت.إنبعثت الألعاب النارية من بعيد فتسائلت هل بدأ مسيحيو الشرق الرحيل؟؟؟
بين خشبة المزود و خشبة الصليب
يا رجل الله.الأخ الأكبر.البكر الذي للخليقة الجديدة. الرب يسوع آدم الحقيقي.ليس الذي منه ولد الناس مطرودين من الفردوس بل الذي فيه نجلس في السماويات في يمين العظمة.
يا مولود المرأة الشبعان آلاماً منذ مولده.فيما إبتهج الجميع بقدومه.أنت تتجرد برداً و فقراً و نحن نكتسي بدفء زائف.أنت تربض كالخروف بين القطيع و نحن نتباهي بتيجاننا الكاذبة .أنت إبن اله من نور الآب و نحن بكذبنا نختال كأنصاف الآلهة.
يا مولود المرأة ها قد جعلت الزمن في جعبتك.نزلت إلينا فصار الزمن زمنك.لتصعدنا إليك و تصير أبديتك أبديتنا.
أمك العذراء تنظر و تصمت.يجول في قلبها كل مسالك النور.لأنها إكتست بكل النعمة من الداخل.فإذ الكلام صار مقصراً صمتت هي.
يوسف البار عرف فيك معني الأزلية والأبدية و كل المعاني السماوية.فإنبهر بمولود خطيبته و لم تعد الدنيا تسَعهُ.
الرعاة تجمعوا بأثوابهم البالية أمام طفلاً مقمطاً فكانوا كما يكون الخراف أمام الراعي.هؤلاء سمعوا ترنيمة الملائكة و رددوها من الحقل حتي خشبة المزود كالقيرواني و ترنيمته حتي خشبة الصليب.
المجوس يرتدون ثياب ملوك.الرعاة يرتدون ثوب العمال.العذراء تلتحف بالنور و يوسف مثلها.و الطفل العجيب عارياً إلا من لفائف.لكن سياجاً من السمائيين يلتف حوله.
النجم الذي أرشد المجوس ظل باقياً عند المغارة لا يريد أن يبرح مكانه. الملائكة أيضاً تستدير حول المزود كالسماء.فعند مولد المخلص أبهرتنا السماء بكائناتها و كواكبها.و عند موته تجللت السماء بظلمة و هربت الكواكب من المشهد.
هيرودس الكاره يشهد أن الطفل غالب.غلب الطفل هيرودس في مولده و غلب هيرودس في صلبه.
و أنا أيضاً أستدفئ بالصبح الذي إنبلج وسط الظلمة و بنعمته أسكن.
يا طفل المزود ولدت هارباً من قصور الملوك و عند النهاية حاكموك سكان القصور و قضوا بموتك .
ملك علي خشبة المزود .ملك علي خشبة الصليب .لقد غيرت معني المُلك و المملكة.