يوسف سيدهم
ذهبت الأسبوع الماضي لإدارة المرور التي أتبعها لتجديد ترخيص القيادة الخاص بي, وكان ذلك بعد مرور نصف قرن علي تعلمي قيادة السيارة واجتيازي اختبارات القيادة وصدور أول ترخيص قيادة سيارة خاصة بإسمي عام …1971 صحيح أنني قمت بتجديد ترخيص القيادة خمس مرات قبل ذلك, لكن إدراكي لانقضاء خمسين عاما علي بدء قيادتي لسيارتي الخاصة كان أمرا يدعو للتأمل حول ذكريات مرتبطة بأحلام وشغف شاب في مقتبل عمره, وكيف نمت وترعرعت معه حتي بات علي أعتاب كبار السن.
يجب أن أعترف أنني مررت بنفس مرحلة الولع بقيادة سيارة مثل أي شاب أو فتاة في مرحلة المراهقة, وطالما راودتني أحلام امتلاك سيارتي الخاصة والانطلاق بها بحرية أينما شئت… لكن أحلامي هذه كانت تصطدم بالواقع وما يسمح به في إطار إمكانيات الطبقة المتوسطة التي نشأت فيها, فلم يكن ممكنا أن أستطيع امتلاك سيارة بمفردي, كما لم يكن متاحا أن يهديني والدي سيارة اشتراها لي… ليس لأنه كان يعجز عن ذلك ولكن لأن المبادئ التربوية التي نشأت عليها كانت تقتضي ـ كما أوضح والدي بكل الحب ـ أن أثبت جديتي واستحقاقي في امتلاك سيارة بعيدا عن أي تدليل أو إفساد… وهكذا جرت الأيام وأنا أحلم حتي سنحت الفرصة لأن أحصل علي أول سيارة خاصة بي بعد أن أتممت الشرط الذي وضعه والدي: ما تستطيع تدبيره من مواردك الخاصة سوف أدفع مثله…
وهكذا اشتريت ـ أنا ووالدي ـ أول سيارة باسمي وكانت قيمتها 750.00 جنيها.
لا أستطيع أن أصف لكم مقدار فرحي واعتزازي بتلك السيارة التي كانت متواضعة بجميع المقاييس, ولكنها كانت فتاة أحلامي التي جاءت بعد أحلام واشتياق وكفاح وتدبير, لذلك كانت قيمتها عندي عظيمة وكنت حريصا كل الحرص علي الحفاظ عليها والتمتع بها.. لكن كانت هناك عقبة: كيف أستطيع قيادتها… وكيف أحصل علي ترخيص قيادة سيارة خاصة؟.
وأعود مرة ثانية إلي الطبقة المتوسطة وأخلاقياتها, حيث أوضح والدي بكل صرامة أنه لا سبيل لحصولي علي ترخيص القيادة إلا تعلمي لفنون القيادة واجتيازي الاختبارات اللازمة ـ ولا سبيل غير ذلك ضمانا لامتلاكي معايير الحرفية والسلامة تجاهي وتجاه الآخرين علي الطريق… وبناء عليه سعيت للتسجيل في مدرسة لتعليم فنون القيادة, واقتضي الأمر اجتياز مراحل متعددة نظرية وعملية في تعلم أصول وفنون وتطبيقات قيادة السيارة حتي أنهيت تلك المرحلة بنجاح, وكان علي أن أجتاز اختبار القيادة في إدارة المرور لأحصل علي ترخيص القيادة.
ذهبت وأنا قلبي يخفق بشدة إلي إدارة المرور وقدمت أوراقي وانتظرت دوري, وعنده تم استدعائي من المسئول عن اختبارات القيادة, حيث استقل سيارتي معي وطلب مني الخروج من مقر إدارة المرور وقيادتها في شبكة الطرق خارجها… وقمت بذلك وأنا أبذل قصاري جهدي للقيادة المتمرسة الملتزمة بأصول مبدأ القيادة فن.. وذوق.. وأخلاق حتي عاد بي إلي ساحة إدارة المرور وبعدما تأكد أنني أوقفت السيارة في المكان المحدد قال لي: مبروك خذ أوراقك واذهب لاستخراج رخصة القيادة.
لا أبالغ إذا قلت إن سعادتي بالحصول علي ترخيص القيادة لا تقل عن مثيلتها للحصول علي شهادة التخرج الجامعي… لذلك كان احترامي لترخيص القيادة وتثميني له مدعاة لحرصي الشديد علي الالتزام الصارم بمعايير القيادة علي الطريق, وأن الترخيص يرتب مسئولية وليس انفلاتا.
الغريب أنني كنت أسمع عبر السنوات اللاحقة من أجيال أبنائنا وأحفادنا أن تعلم القيادة واجتياز اختبارات القيادة في إدارات المرور المختصة لم يعد كما عهده جيلي, بل تآكل وانفرط عقده حتي وصل الأمر إلي ما يمكن تشبيهه بالاختبار البهلواني عوضا عن اختبار أصول القيادة..
حيث بتنا نسمع عن خضوع المتقدم لاختبار القيادة لتمرير سيارته عبر منحني محدد بأقماع مرورية موضوعة داخل ساحة إدارة المرور ـ جيئة ورجوعا ـ دون الإطاحة بأي من تلك الأقماع ـ وتكون تلك علامة اجتيازه اختبارات القيادة!!!…
ولا عجب بعد ذلك أن نعايش كافة أشكال الانفلات والفوضي التي تزخر بها شوارعنا طالما غابت معايير اختبار أصول القيادة كفن وذوق وأخلاق عن استحقاقات الحصول علي ترخيص القيادة.
إن جيلي يعجب من غياب أبسط مبادئ حرفية القيادة واحترام معايير السلامة فيما يحدث علي طرقنا… ويتساءل: هل ما نراه من انفلات وعدم احترام لقواعد القيادة ناجم عن جهل بأصول القيادة أو عن استهتار بقوانين المرور, طالما تلك القوانين غير يقظة في مراقبة الحركة علي الطرق؟… أو أن هناك أمرا أساسيا غائبا يتحتم إدراكه؟.
نعم.. هناك أمر أساسي غائب يتحتم إدراكه, وهو العودة إلي تطبيق قواعد ومسارات جادة صارمة لتعليم القيادة ولاختبارات القيادة شرطا لصرف تراخيص القيادة للسائقين.. ولعل في هذا الخصوص يلزم أن تنظر إدارات المرور في اعتماد وترخيص مدارس بعينها لتعليم القيادة بحيث لا تعتمد إلا الشهادات الصادرة عنها كوثيقة تؤهل حاملها للتقدم لاختبارات القيادة والحصول علي ترخيص القيادة… إنني هنا أناقش سبيل العلاج الحتمي لواقعنا المتردي دون الدخول في الحديث المعتاد لاستعراض كافة أشكال الانفلات في القيادة والفوضي السلوكية التي تنم عن الجهل التخلف وافتقاد الفن والذوق والأخلاق في القيادة… ولمن لا يعرف هناك حديث آخر في هذا الخصوص!!!