نفيسة دسوقي
هل هو حلم أن يصبح البيت وكأنه متحف فني صغير، مزينا بالزخارف التراثية ذات الألوان المبهجة، دافئا شتاء، وجيد التهوية صيفا، ومؤسسا من خامات البيئة الطبيعية بتكاليف بسيطة تجعله متاحا للفقراء؟.. لم يكن بيت بتلك المواصفات مجرد حلم جميل، بل كان واقعا معاشا قدمه الفنان المعماري الراحل الدكتور حسن فتحي (23 مارس 1900 – 30 نوفمبر 1989) صاحب الرؤية الإنسانية في طرح قضية اسكان الفقراء، في كتابه “عمارة الفقراء” والذي كان موضوع إحدى الندوات الثقافية ضمن فعاليات معرض القاهرة الدولي للكتاب، والتي شهدت احتفاء لافتا بالراحل وأعماله وفلسفته المعمارية من قبل تلاميذه ومحبيه.
أدار الندوة المعماري عصام صفي الدين، أحد تلامذة حسن فتحي، ومؤسس بيت المعمار المصري بجوار قلعة صلاح الدين الأيوبي بالقاهرة، والذي قدّم حسن فتحي، لا بوصفه معماريا فحسب، ولكن بوصفه فنانا مبدعا في فن العمارة، ذلك الفن الذي يتعامل مع العمارة كمنتج إنساني يهتم بتقديم ما يتناسب مع روح الانسان، فن يهتم بدمج التراث الإنساني بالعمارة الحديثة، ويسعى لجعل المسكن جزءا أصيلا من البيئة المحلية التي يوجد فيها، بكل ما تحمله هذه البيئة من خصائص وسمات.
المعماري عصام صفي الدين
يصف عصام صفي الدين، معلمه حسن فتحي، بأنه صاحب منهجية فكرية في العمارة، فالعمارة عند حسن فتحي لم تكن مجرد شكل خارجي جميل، بل كانت بالإضافة إلى ذلك، فلسفة تقوم علي توظيف خامات البيئة المحلية، وهى بالطبع تختلف من مكان إلى أخر، فلسفة تقوم على قدرة الإنسان الفقير ذاته، على بناء بيته مستخدما خامات بيئته المحلية.
كتاب “عمارة الفقراء” الذي حاز شهرة عالمية واسعة، يعرض تجربة حسن فتحي في التخطيط والتصميم وبناء قرية” القُرنة” بمحافظة الاقصر بصعيد مصر، والتي أنشئت لإستيعاب المهجرين من مناطق المقابر الفرعونية بالبر الغربي بالأقصر. وقد تم اختيار موقع القرية ليكون بالقرب من السكك الحديدية والأراضي الزراعية، وتم بناؤها باستخدام “الطين” كمادة للبناء، وهى مادة تتوافق مع الثقافة والعمارة المحلية التقليدية، المعتادة لدى هؤلاء المهجرين.
وفي تناوله لتجربة حسن فتحي المعمارية في قرية القرنة يقول المهندس المعماري الدكتور عمرو رؤوف إن حسن فتحي أستبدل مواد البناء غالية التكلفة، مثل الحديد والصلب والأسمنت، بمواد بناء من البيئة المحلية، وهى بطبيعتها مواد منخفضة التكلفة، مثل الطين والطوب الرملى والحجر، كما قام حسن فتحي بإنشاء سقف الحجرات بالطوب فقط، كما يفعل أهل النوبة في بناء مساكنهم، حيث يكون سقف الحجرة المربعة عبارة عن قبة، أما الحجرة المستطيلة فيكون سقفها عبارة عن نصف أسطوانة. ويمكن تزيين تلك الأسقف بالعديد من الرسومات المستوحاة من التراث الشعبي المحلي.
في هذا الإطار أستعرض الدكتور عمرو رؤوف فيلما وثائقيا لتجربة الدكتورة زينب الديب، وهى إحدى تلاميذ حسن فتحي، والتي حاولت إعادة إحياء فلسفة حسن فتحي في فن عمارة الفقراء، فقامت ببناء نموذج لأحد البيوت ذات القباب التي تحاكي تصاميم حسن فتحي في البناء، وأشارت إلى أن تكلفة البيت لم تتجاوز 8500 جنيه، آنذاك (عام 1995). وقد حاولت تسويق فكرتها إعلاميا، والتي تقوم بشكل أساسي على تدريب الشباب على بناء تلك البيوت بواسطة إستخدام الخامات المتاحة بالبيئة المحلية بمختلف القري المصرية. وقد لقيت هذه التجربة استحسانا من قبل الكثيرين ومن بينهم الكاتبة سكينة فؤاد التي اعتبرتها حلا مثاليا لأزمة إسكان الفقراء، وأشادت بجمال التصميم المعماري، الذي يتناغم مع طبيعة البيئة المحلية، مع ما تتضمنه تلك التجربة من محاولة إحياء الحرف التقليدية القديمة.
حاز المعماري الراحل حسن فتحي على العديد من الجوائز العالمية، منها ثلاث جوائز حصل عليها في عام واحد، عام 1980، جائزة نوبل البديلة من السويد، وجائزة مؤسسة الآغاخان للعمارة، وجائزة بالزان العالمية من إيطاليا، وفي عام 1984 حاز على جائزة من الإتحاد الدولي للمعماريين بباريس، وفي عام 1987، منحه الإتحاد الدولي للبناء والحرف التقليدية، جائزة لفلسفته الخاصة بإستخدام خامات البيئة المحلية والإستعانة بالحرف التقليدية بالمناطق المختلفة في بناء وتأسيس المسكن، كما حصل عام 1989، على جائزة من برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية، وحين أرادات احدى أهم الدوريات المتخصصة في فن العمارة بفرنسا،”Urbanism” في نهاية القرن الماضي، تقديم رصد لأهم مائة معماري أثروا فن العمارة في القرن العشرين، كان حسن فتحي أحد هؤلاء المعماريين المتميزين، ليس هذا فحسب بل إن تلك المنهجية التى قد طرحها حسن فتحي في فن عمارة الفقراء أصبحت مادة للتدريس بالعديد من الجامعات العالمية. وفي عام 1980 قام حسن فتحي بتأسيس قرية “دار السلام” الدولية بولاية نيومكسيكو الأمريكية على مساحة 1200 فدان.
لكن ولأن المثل العربي يقول إن “زمّار الحي لا يطرب” فإن فلسفة حسن فتحي في العمارة والتي حظيت بتكريم وترحيب العالم، لم تجد تلك الحفاوة والاهتمام في بلده مصر. البعض عزا ذلك إلى أن سمات عمارة فتحي لم تراع خصوصية وثقافة بعض المصريين ومعاييرهم في البناء خصوصا في الصعيد وهو ما جعل سكان القرنة يهجرونها بعد ذلك. لكن هناك من أرجع تجاهل فن حسن فتحي وعمارته لأسباب سياسية تتعلق بموقف الرئيس الراحل أنور السادات الذي لم يخف معارضته لفلسفة حسن فتحي المعمارية ورفض تطبيق مشروعه في عمارة الفقراء، بإيعاز، كما تردد، من عثمان أحمد عثمان رئيس مجلس إدارة شركة المقاولون العرب آنذاك، والذي رأى أن مثل هذه الفلسفة قد تكون سببا في خراب الشركة. لكن السادات نفسه هو الذي عاد بعد ذلك ليطلب من حسن فتحي تصميم احدي الاستراحات الرئاسية الخاصة به، وكأن العمارة ذات اللمسات الفنية الجميلة يجب أن تكون حكرا على الأغنياء وحدهم وليس للفقراء منها نصيب، وهذا ما شاع فيما بعد، حيث انتشرت تصاميم حسن فتحي في البناء في العديد من المنتجعات السياحية، لتتحول تلك التصاميم إلى فن يستمتع به الأغنياء، وليست عمارة للفقراء، كما أراد لها صاحبها، الذي قال “إن الله قد خلق في كل بيئة ما يقاوم مشكلاتها من مواد، وذكاء المعماري هو في التعامل مع المواد الموجودة تحت قدميه”.
نقلا عن أصوات اون لاين