د.خالد منتصر  

عدم أكل لحم الخنزير أمر ديني ،لكن هل كراهية حيوان الخنزير أمر ديني أيضاً ؟ أثارت قضية نقل كلية الخنزير لعلاج الفشل الكلوي عاصفة من الهجوم الكاسح،وأظهرت التعليقات كماً رهيباً من التحقير والعدوانية تجاه هذا الحيوان الغلبان وكأنه سبب كوارث العالم ! والسؤال ماعلاقة تحريم أكل لحم الخنزير بتحقيره وكراهيته ؟ كم من الحيوانات والطيور محرم أكل لحمها لكننا لانحمل كل هذا العداء الدفين والهستيري لها ، برغم الأيادي البيضاء التي قدمها الخنزير للإنسان في عالم الطب مازال أي خبر طبي يسهم فيه الخنزير بخير يعود على البشرية ،يقابل بالسخط والنفور من المزاج العام للمصريين ، لذلك لابد أن نعرف عن تلك التجربة الطبية الثورية التي ستفتح آفاقاً جديدة في عالم زراعة الأعضاء ،ونعرف أيضاً الدور الذي قام به هذا الحيوان لإنقاذ البشرية ،حتى ننظر للأمر نظرة علمية ،أنتظر هجوماً ولعناً وسباباً وتكفيراً ،لكن السعي إلى  الحقيقة عندي أهم ،ولذلك لا أهتم إلا بها مهما كان حجم الهجوم، لماذا قال جراح القلب البريطاني تيرينس إنجليش ،أن ماسينجح في الخنزير غالباً سينجح في الإنسان ؟ لأن العلماء منذ فترة كبيرة لاحظوا التقارب التشريحي والفسيولوجي المدهش بين جسم الإنسان والخنزير ،وهو مايعمل علماء الطب التطوري على تفسيره ، وقد جعل هذا التشابه من الخنزير بيئة مناسبة للتجارب العلمية وأيضاً لنقل الأعضاء ، فتقارب شكل القلب وتعرض الخنزير لتصلب الشرايين مثلنا جعل العلماء يجربون القسطرة وعمل الأدوية بل وزرع قلبه وكانت البداية بزرعه في قرد البابون تمهيداً لزرعه في الإنسان،وكذلك الإستفادة من تشابه الكبد ومسار الهضم ومن أنه يأكل النبات واللحم في تجارب الأدوية ومدى إمتصاصها..الخ، هذا التشابه جعل هدايا الخنزير الطبية للإنسان وأياديه البيضاء علينا كثيرة، أهدانا الإنسولين الذي إعتمدنا عليه وقتاً طويلاً في إنقاذ الملايين من مرضى السكر حتى توصل العلماء لصناعة الإنسولين البشري بالهندسة الوراثية، وكذلك الهيبارين المقاوم للتجلط كان يؤخذ من أمعاء الخنزير، والكالسيتونين  الدواء الذي يستعمل في هشاشة العظام ،هو أيضاً هدية الخنزير ، أخذنا منه صمامات القلب ،وهناك حكاية معروفة من زمن حكم الجماعة عن بلاغات قدمها أطباء إخوان في أسوان ضد د.مجدي يعقوب ،يتهمونه بأنه يستخدم صمامات قلب الخنزير الحرام ليزرعها في قلوب المسلمين !! وهناك أطباء صينيون إستخدموا قرنية الخنزير لعلاج العمى، نأتي إلى آخر هدايا الخنزير للإنسان وهي الكلية التي زرعها الجراح الأمريكي روبرت مونتجمري في مريضة فشل كلوي ميتة دماغياً  بعد إستئذان أسرتها التي وافقت فوراً بعد أن عرفت أن التجربة هي لخدمة البشرية، وللصدفة فالجراح الأمريكي كان على شفا الموت لحاجته إلى زرع قلب منذ ثلاث سنوات ،وتم إنقاذه ،أي أنه رجل عانى الألم وقسوة المرض ومهانة الإنتظار ، ومثل الجراح عشرات الألاف في أمريكا نفسها على قائمة إنتظار زرع الكلى ،برغم وجود قانون نقل الأعضاء من ميت إلى حي هناك، إلا أنهم مازالوا يحتاجون إلى حلول ثورية إضافية،لذلك فكروا في نقل أعضاء الخنازير إلى الإنسان، المهم حياة الإنسان وإنقاذه من معاناة المرض ،هذا مايشغل بال العلماء هناك، كانت المشكلة الأساسية هي في رفض الجسم لكلية الخنزير بسبب نوع كربوهيدرات إسمه ألفا -جال ، وكانت الخطوة الثورية الجبارة هي في تعطيل الجين المسئول عن هذا السكر الألفا جال ،هذا التعطيل إستفاد منه مرضى حساسية اللحم وأيضاً من يحتاجون لزراعة الكلى،زرعها الجراح خارج الجسم ووصلها بالأوعية الدموية ،راقبها لمدة ٥٤ ساعة، وجد أن كلية الخنزير عملت بكفاءة ،وعادت نسبة الكرياتنين إلى طبيعتها ، لكن هل قال العالم أن تلك هي النهاية ؟ لا ..فالعلم نسبي ومتواضع وفضولي وشغوف ولايدعي حلولاً سحرية، قال الجراح مونتجمري أنها البداية فقط،وإنه ينتظر نتيجة النشر في المجلة العلمية المحكمة التي هي معياره العلمي المنضبط ، وأن هناك إحتياج لدراسة تأثير تلك الزراعة بعد سنوات لا ساعات ،وأنه يتمنى أن تفتح باب نجاح لنقل مزيد من الأعضاء من الخنزير إلى الإنسان .
 
هذا هو العلم يحاول أن يمد يده بطوق النجاة إلى الإنسان ،ماضٍ في طريقه غير عابئ بأقوال من كتب صفراء هنا أو تراث محنط هناك ،يحاول أن يتغلب على خوف الإنسان المزمن من التغيير والتجديد ، فلسفته الشك والسؤال لا اليقين والتلقين.