من خلال مواقف حية عشتها مع نيافته
إعداد/ ماجد كامل
كنت قد كتبت في الاحدي عشر مقالة السابقة التي كتبتها عن المتنيح الأنبا غريغوريوس حول بعض جوانب متعددة من فكر نيافته ( راجع المقالات الأحدي عشر علي صفحتي الشخصية في يوم 13 أكتوبر ) . ولكني اليوم لن أتناول أي جوانب جديدة من فكر نيافته ؛ ولكني سوف أركز علي البعد الإنساني في شخصيته ؛ وفي هذا المجال لن أعتمد علي كتب أو مراجع ؛ ولكني سوف أعتمد بالأكثر علي ذكرياتي الشخصية مع نيافته ؛ من خلال اللقاءات والحوارات وأيضا المحاضرات العامة التي كان يلقيها ؛ والتي لمست فيها إنسانتيته العالية . ولعل أول ما لمسته في هذه النقطة هي وفائه الشديد نحو أساتذته ومعلميه ؛ ولقد لمست هذه النقطة من خلال المواقف التالية :-
1-عندما دعانا أستاذنا المرحوم الدكتور سليمان نسيم ( 1923- 1998 ) لحضور لقاء مع نيافته في مكتبه بالدور الثالث بمناسبة افتتاح متحف حبيب جرجس) 1876- 1951 ) ؛ وخلال الحوار ذكر موقفين لم يستطع بعدها حبس دموعه وحشرجة صوته :- الموقف الأول حدث أثناء الاحتفال بيوم الإكليركية في 29 نوفمبر 1939 ( وكان نيافته من ضمن الخريجين في نفس السنة ) ؛ فقال عنه انه كان خطيبا مفوها ؛ وذكر أنه في الخطبة الافتتاحية صاح " أبنائي وأمالي " ؛ وإذ بصوته يتحشرج ولم يستطع إكمال الجملة ؛ فأعادها أكثر من مرة وفي كل مرة كان صوته يتحشرج ودموعه تسيل . الموقف الثاني حدث في نفس اللقاء عندما روي لنا قصة تعيين المجلس الملي لمستر باري راعي الكنيسة الأسقفية في القاهرة لإلقاء دروس اللغة اليونانية بدلا من الاستاذ يسي عبد المسيح ( 1898- 1959 ) ؛ وكان الأرشيدياكون حبيب جرجس حزينا لهذا القرار ؛ فقام وهيب عطا الله ( أسمه العلماني قبل الرهبنة ) وأخذ يمر علي جميع طلبة وأساتذة الإكليركية ليجمع توقيعات برفض الأساتذة والطلبة لهذا القرار التعسفي ؛ وعندما جمع كل التوقيعات ؛ دخل إلي مكتبه وعرض عليه المذكرة بالتوقيعات ؛ فهتف حبيب جرجس فرحا " انا عارف أني ها أسيب رجالة وراي من بعدي " وللمرة الثانية يتحشرج صوت نيافته ودموعه تسيل ولم يستطع إكمال الجملة ؛ فأعادها أكثر من مرة . وبعد نهاية اللقاء نزل معنا إلي الدور الثاني الموجود فيه قسم التربية والمقر المؤقت للمتحف ( قبل نقله إلي المقر الحالي بالمركز الثقافي القبطي ) وكان الدكتور سليمان يعرض عليه صور كتاب " المدرسة الإكليركية " فكان يقف عند كل صورة ويذكر ذكرياته عنها ؛ وعند صورة طلبة السنة الخامسة بالمدرسة ؛ وقف أمامها طويلا ؛ وأخذ يعرض أسماء الطلبة واحدا واحدا وأين هم الآن ؛ حتي وصل إلي صورة الطالب الواقف أقصي يمين الصورة وقال " وده أنا "( أنظر الصورة صفحة 172 من الكتاب ) . ثم قام بالتعرف علي صور أساتذة الكلية الموجودة بكتاب " المدرسة الإكليركية بين الماضي والحاضر " ؛ وعند صورة كامل بك جرجس ( الصورة موجودة في صفحة 67 من الكتاب ) قال عنه ده كان بيدرس لنا تربية وعلم نفس ؛ ونجله حاليا الدكتور رمسيس كامل عضو لجنة كنيسة العذراء أرض الجولف ؛ وكنت أخدم في أرض الجولف في تلك الفترة ؛ وفي اليوم التالي مباشرة قابلت دكتور رمسيس وسالته مداعبا " هو والدك كان مدرس في الإكليركية وما تقوليش " فسألني بتعجب "عرفت منين ؟؟!! " قلت لي كنا مع أنبا غريغوريوس أمبارح وقال لنا ؛ ففرح جدا وقال " ده الأنبا غريغوروس كل ما يشوفني يقول لي والدك كان أستاذي وله فضل كبير علي " .
2- موقف آخر في الوفاء نحو أساتذته ؛ عندما كان حاضر لندوة الجمعية الفلسفية ( لنا عودة لبعض من ذكريات هذه الندوة ) وعند الإياب عرض علي بمحبته الكبيرة توصيلي لباب الكاتدرائية ؛ وطبعا وافقت فورا حتي تكون فرصة للحوار مع نيافته أكثر ؛ وخلال الطريق أخذ يروي لي ذكرياته عن بعض أساتذته في الإكليركية ؛ وجاء ذكر " إسرائيل ولفننسون ( 1809- 1980 ) أستاذ اللغة العبرية (وهو المعروف بلقب أبي ذؤيب ؛ ويعتبر من كبار رواد الدراسات السامية في مصر والمنطقة العربية ) . فقال لي نيافته بالحرف الواحد " لن أنسي فضل هذا الرجل علي ما حييت " وقال أيضا علي لسان ولفنتستون "أن الترجمة العربية لسفر النشيد قد ظلمت السفر كثيرا ؛ فالأصل العبري والترجمة القبطية لا تظهر المعاني الجنسية في النص الموجودة في الترجمة العربية" . كما ذكر لي فضل أساتذته في الفلسفة في الجامعة المصرية ؛ وكيف تأثر بهم ؛ وخص بالذكر الدكتور عبد الرحمن بدوي( 1917- 2002 ) أستاذ الفلسفة الوجودية ؛ والأستاذ محمود الخضيري أستاذ الفلسفة الإسلامية ( 1906- 1960 ) ( وبالمناسبة هو والد الأستاذة الدكتورة زينب الخضيري أستاذة الفلسفة الإسلامية الكبيرة أطال الله حياته ومتعها بالصحة والعافية ) .
3- من المواقف التي ما زلت أذكرها والتي تظهر محبته الكبيرة لآبائه ومعلميه ؛ عندما روي لنا تفاصيل جنازة المتنيح الطيب الذكر البابا مكاريوس الثالث (1782- 1945 ) وكان نيافته وقتها مدرسا بالإكليركية ؛ وكلف بالقيام بعملية إلباس قداسته الروب الخاص برئيس الأساقفة ؛ وعندما قام مع زملائه بمحاولة فرد ذراعيه ؛ فوجئوا بقداسته يرفع يديه لكي يساعدهم ؛ وفي هذه اللحظة تحشرج صوت نيافته وسالت دموعه تأثرا بالموقف رغم مرور أكثر من 40 عاما علي الحدث . كما سالت دموعه بغزارة عند الصلاة علي جثمان كل من ( المتنيح القمص ميخائيل إبراهيم – القمص قسطنطين موسي ....... الخ ) .
3-أما قداسة البابا كيرلس السادس ؛( 1902 – 1971 ) فيمكن أن أقول أنه كان يكن له محبة خاصة جدا ؛ فالمعروف أنه كان ملتزما بحضور قداس ذكري قداسته في الجمعة الأولي من شهر مارس في كنيسة مارمينا الزهراء بمصر القديمة ؛ ورأيت بنفسي كيف كانت دموعه تسيل عند الترحيم ويتحشرج صوته بالبكاء عند ذكر أسم قداسته ؛ وأذكر جيدا أنه بعد أصابته بالجلطة في 24 نوفمبر 1994؛ قمت بزيارته في مكتبه ؛ وكان تركيزه لم يكن كاملا مثل الأول بالطبع ؛ حمل الصليب في يده ليباركني به وقال لي " أنا بأعتز جدا بالصليب ده علشان واخده هدية من البابا كيرلس السادس " وكانت كل صور مكتبه كذلك غرف المكتبة وغرفة النوم الخاصة بنيافته تكتظ بصور قداسته . ولقد حرص في كل مناسبة خاصة بالبابا كيرلس سواء كانت ( نياحته – افتتاح الكاتدرائية – عودة رفات مارمرقس – ذكري مولده .... الخ ) أن يقيم طلب ترحيم خاص بقداسته ؛ ثم طلب ترحيم خاص بكل المطارنة والأساقفة الذين تنيحوا بعد قداسته ؛ والعجيب أنه كان يسردهم من الذاكرة دون أن يسجلهم بالقلم ؛ وكان يضيف كل عام ما يستجد من وفيات ؛ وهذا ما شاهدته وسمعته بنفسي .
4- كان يبكي كثيرا أثناء صلوات القداس ؛ وفي العظات خصوصا عند ذكر آلام السيد المسيح ؛ لن أنسي ما حييت حشرجة صوته بالبكاء في القداس الغريغوروي خصوصا عند القطعة التي تقول" ونحن المدعون إلي خدمتك عن غير استحقاق " . وكلنا شاهدنا اليوتيوب الخاص به أثناء التوزيع وكيف كانت الدموع تسيل من عينيه بغزارة .
5-من ذكريات ندوة الجمعية الفلسفية السابق ذكرها ؛ أن موضوع المؤتمر كان بعنوان " نحو علم كلام جديد " وكانت ورقة نيافته بعنوان "علم اللاهوت الشرقي " ( وردت نص الكلمة في موسوعة الانبا غريغوروس ؛ موضوعات عامة ؛ المجلد رقم 30 ؛ الصفحات من 40- 48 ) . ولقد عقدت الندوة في قاعة الشيخ صالح كامل بضيافة الأزهر الشريف ؛ وكانت ورقة نيافته أول ورقة في ثالث يوم من المؤتمر ؛ وحرص نيافته علي الذهاب مبكرا ؛ وقبل بداية الندوة جاءه طالب من جامعة الأزهر وفتح باب الحوار والمناقشة معه ؛ وكان نيافته يصغي له بكل الاهتمام كنفس الاهتمام الذي يعطيه لطلبة الإكليركية تماما ؛ رغم أن أسئلة الطالب الأزهري كانت في بعض الأحيان استفزازية ؛ إلا أنه صبر عليه وكان يجاوبه بكل محبة وهدوء . وأذكر جيدا أن أحد كبار أساتذة الفلسفة الحاضرين علق علي ورقة نيافته فقال " ورقة نيافة الأنبا من أهم الأوراق التي القيت ؛ وياليتها كانت الورقة الافتتاحية للمؤتمر ( كان حاضرا في نفس الندوة كل من المرحوم الدكتور موريس تاوضروس ( ( 1929- 2018 ) والمرحوم الأب كريستيان فان نبسن اليسوعي ( 1938- 2016 ) . وطبعا لا يفوتني أن ألفت النظر إلي جمال الإلقاء وقوة الصوت واللغة العربية الرصينة التي كان يتحدث بها .
6-أما زملاء الدراسة في الكليات الثلاثة التي درس فيها ( الاكليركية – الفلسفة – الآثار ) فلقد حدثني كثيرا عن زميل دفعته الدكتور زكريا إبراهيم ( 1924- 1967 ) ؛ وقال لي أنهم كانوا يتبادلون الكتب والحوارت الفلسفية واللاهوتية ؛ وكانت تربط بينهم محبة كبيرة . أما زميل الدراسة الآخر في نفس الدفعة ؛ فهو المرحوم الدكتور يحيي هويدي أستاذ الفلسفة الإسلامية في جامعة القاهرة ( ؟ - 2014 ) ؛ فلقد كان حاضر مع نيافته مؤتمرا دوليا نظمته الجمعية الفلسفية الدولية بعنوان " الثقافات ....... حوار أم صراع ؟" وكان المؤتمر في فندق النيل بالقاهرة ؛ ولقد سمح لي بالحضور ؛ وعندما شاهد الدكتور هويدي الأنبا غريغوريوس عانقه بقوة ؛ ورفع يديه وسط كل الحاضرين وقال بصوت عالي " ده صديق العمر ده " ؛ وفي فترة الراحة سالته كيف تعرفت عليه بالرغم من تغير أسمه ثلاث مرات ( وهيب عطا الله – باخوم المحرقي – الأنبا غريغوريوس ) فرد علي " حتي لو تغير 100 مرة مش ممكن أقدر أنساه ابدا " والعجيب أنه بعد مرور شهر أو أكثر من الندوة ؛ تقابلت مع سيادته في الجمعية الفلسفية المصرية فسألني " أزاي الأخ وهيب ؟ سلم عليه كتير " فرديت عليه حضرتك تقصد الأنبا غريغوروس ؛ الحمد لله بخير . وعندما ذكرت الموقف لنيافته ضحك وقال لي هو مش فاكرني غير بالأخ وهيب . ومن زملاء الدراسة في قسم الآثار كان المرحوم الدكتور عبد العزيز صالح ( 1921 – 2001 ) فلقد كان يروي لطلبة كلية الآثار كيف كان يتبادل الحوار مع الطالب وهيب عطا الله حول علاقة اللغة الهيروغليفية باللغة القبطية .
7--كان نيافته متفتح الفكر جدا نحو أخوته سواء في الوطن أو نحو اخوتنا الكاثوليك والبروتسنانت؛ بل ونحو الأجانب من أصحاب الديانات الأخري وحتي اللا دينين ؛ وفي هذا الإطار كان الكاتب الصحفي الراحل المرحوم بيومي قنديل قد طلب مني تحديد موعد مع نيافته ؛ فأقترحت عليه أن يحضر محاضرة نيافته يوم الأثنين حوالي الساعة الثامنة ويسلم عليه ويعرض عليه الأمر ؛ وبالفعل جاء بيومي في الموعد ؛ وكتب ورقة لنيافته " هل تسمح لي بلقاء قصير مع نيافتكم الآن ؟" . وقام الأخ نصحي ( حاليا القس يوحنا نجيب كاهن كنيسة مارمينا مدينة الأحلام بمنطقة شرق السكة الحديد ) بتقديمها لنيافته ؛ وبعد ما قرأها سأل بتعجب " الآن ؟؟؟!!! " رد عليه نصحي " ممكن يا سيدنا ؟ " فرد وقال " ممكن " ؛ ولقد أستمر الحوار أكثر من ساعتين ( أذكر جيدا الحوار بدأ حوالي الحادية عشر مساءا وأستمر حتي الواحدة صباحا تقريبا ) وبعد نهاية اللقاء ذكر لي الأستاذ بيومي " مش ممكن ده بحر من المعرفة " . ولقد طلب لقاءه أكثر من مرة بعد ذلك وبالفعل سمح له . وفي اللقاء الثاني كان بحضور الدكتور كمال فريد أسحق أستاذ اللغة القبطية بمعهد الدراسات القبطية ( أطال الله حياته ومتعه بالصحة والعافية ) وضعفي ؛ وفي اللقاء سأله بيومي سؤال عن معني أسم أحدي القري في أحدي محافظات الصعيد ( كان بيومي وقتها يكتب مقالا أسبوعيا في جريدة الأخبار بعنوان أسم ومعني يتناول فيه أسم كل قرية ومدينة ويردها إلي أصلها الفرعوني والقبطي ) ؛ فقام نيافته من علي مكتبه وتوجه إلي مكتيته الخاصة المكتظة بالكتب ؛ وخرج علينا بعد قليل محملا بمجموعة ضخمة من القواميس والمعاجم باللغات ( العربية – الإنجليزية – الفرنسية ) ؛ وهي موسوعات ضخمة وثقيلة حملها وهو الشيخ المسن فوق الثمانين ؛ ثم فتح قاموس أميلينو( 1850- 1915 ) المكتوب باللغة الفرنسية ؛ ولبس نظارة القراءة ؛ وأخذ يقرأ ويترجم فقرات كاملة من القاموس الخاص بأسم القرية ؛ ووسط الحوار أكتشف كتاب آخر قد يفيد في الموضوع فقال " ثواني أدخل أجيب كتاب كمان " . وبعد دخوله نظر إلينا بيومي خجلا وقال " يا خبر ده أحنا أرهقناه وتعبناه جدا " وأثناء المناقشة قام ليلتقط كتابا آخر من الدولاب ؛ وأحتاج أن ينحني ليلتقط الكتاب من أسفل الدولاب ؛ فنبهني الدكتور كمال موبخا وقال " ساعده يا ماجد "
ولقد كان نيافته مشاركا في الكثير من ندوات واحتفالات اخوتنا الكاثوليك والبروتستنانت ؛ أذكر منهم الحفل الذي أقيم لتكريم الأب جورج شحاتة قنواتي ( 1905- 1993 ) . ( كانت تربط بينهم محبة وصداقة قوية ؛ ولقد تزاملا في عضوية جمعية الآثار القبطية كذلك عضوية شعبة الثقافة بالمجالس القومية المتخصصة ) ؛ ولقد تقدم المرحوم الدكتور نبيل صبحي ( 1947- 2000 ) بتعريف عالم الاجتماع الكبير الدكتور محمد الجوهري بنياقته بناء علي طلبه ؛ فبعد التعريف قال نيافته للدكتور الجوهري " الإنسان لا يجب أن بعيش منعزلا عن الآخرين ؛ فلقد خلقنا الله مختلفين في كل شيء ؛ فلا تجد بصمة إنسان مثل بصمة أنسان آخر ؛ ولا قلمة ظفر عصفور مثل قلمة ظفر عصفور آخر ؛ ونحن جميعا مدعوون أن نسمع لبعض ونستفيد من بعض ( ناخد وندي علي حد تعبير نيافته ) مما أثار إعجاب عالم الإجتماع الكبير وقال له " تشرفت بمعرفة نيافتكم كثيرا " . كما قام بإلقاء محاضرتين علي مرتين في كنيسة مريم سيدة السلام بجاردن سيتي ضمن محاضرات جماعة "جماعة الإخاء الديني " ( وهي جماعة أسسها المستشرق لويس ماسينون في أوائل الأربعينات ( 1883- 1962 ) ؛ وكانت تضم في عضويتها صفوة من رجال الفكر مسلمين ومسيحين ) . المحاضرة الأولي في المرة الأولي كانت بعنوان " نقاط الإلتقاء بين المسيحية والإسلام " وكانت حاضرة هذه الندوة المطربة اللبنانية " لوردكاش ( 1917- 2005 ) مع صفوة من كبار علماء المسيحية والإسلام ؛ ولقد شدت لوردكاش في نهابة الندوة بأغنيتها الشهيرة " آمنت بالله " كما ترنمت بترنمية " مجد مريم " . أما المحاضرة الثانية في المرة الثانية
فكانت بعنوان " فوائد الصوم " وكان حاضرا هذه الندوة صفوة مختارة من كبار علماء الإسلام والمسيحية ( من بينهم صديقه الحميم الأب قنواتي الذي أبدي إعجابا كبيرا بالمحاضرة ) . كما دعي إلي إلقاء محاضرة في كلية اللاهوت الإنجيلية بالعباسية بناء علي دعوة من عميد الكلية وقتها ( الدكتور القس إكرام لمعي ) وفي نهاية المحاضرة ؛ قام الدكتور مارك سوانسون عالم التراث العربي المسيحي الكبير ( كان منتدبا وقتها للتدريس في كلية اللاهوت الإنجيلية ؛ كما كلف بتدريس اللغة اليونانية بالكلية الإكيركية للأقباط الأرثوذكس ؛ ولقد كنت حاضرا تلك السنة وأستفدت منه كثيرا ) بإهداء نيافته درع التكريم من الكلية بعد كلمة تقدير طيبة . كما دعي إلي إلقاء محاضرة بالكنيسة الإنجيلية بعين شمس حول مكانة الأم في المسيحيية . وطبعا معروف انه ألقي خطبة في مسجد بمديرية التحرير خلال فترة ما بعد نكسة يونيو 1967 . وعودة إلي مؤتمر الجمعية الفلسفية الدولية ؛ كان حاضر هذا المؤتمر صفوة من أساتذة الفلسفة من جميع أنحاء العالم ؛ واذكر جيدا أنه خلال فترة الراحة وشرب الشاي ؛ وقف بتحاور مع أحد أساتذة الفلسفة الهنود ( بوذي الديانة ) ؛ فروي له ذكرياته عن زيارته للهند أكثر من مرة من خلال اجتماعات مجلس الكنائس العالمي ؛ ثم تحاور معه أستاذ فلسفة كوري ملحد ( بناء علي قوله لي شخصيا عندما سالته عن ديانته حيث قال بالحرف الواحد أنا لا شيء I am nothing ) . وأخذ الأستاذ الكوري يسأله في جوهر العقيدة المسيحية ؛ فشرح نيافته له بلغة إنجليزية سليمة حقائق المسيحية بناء علي أسئلة الفيلسوف الكوري .
8- كان نيافته يؤمن بأهمية الإنسان – كل إنسان – وقيمته مهما كانت ؛ وفي هذا الإطار سمعت عظة لنيافته علي شريط كاسيت بعنوان " قيمة الإنسان في ذاته " والعظة أصلا كانت جزء من عظة قداس تأمل في أنجيل زكا العشار ؛ وكيف أهتم السيد المسيح أن يزوره في بيته رغم سمعته السيئة كعشار ؛ ومن التاملات الجميلة التي ذكرها نيافته أنه في المسيحية الإنسان قيمة في ذاته بصرف النظر عن كونه كاهن أو أسقف أو مطران ؛ وزير أو خفير ؛ فيكفي أن تذكر عنه أنه إنسان وأنه مخلوق سام مخلوق علي صورة الله ؛ ولهذا السبب تنص القوانين الكنسية أنه إذا حضر القداس شخص واحد فقط ؛ يقام القداس من أجل هذا الشخص . ولقد شاهدت بنفسي عندما دعي إلي إلقاء محاضرة في كنيسة مارمرقس كليوباترا حول " أهمية قراءة الكتاب المقدس " وكان عدد الحضور لا يتعدي 4 شباب علي الأكثر ؛ ومع ذلك ألقي محاضرة كاملة متكاملة ولم يتأثر بقلة العدد .
8-ولقد جسد نيافته هذه العظة عمليا من خلال بعض المواقف المعينة التي حدثت معي أو أمامي ؛ ؛ وأبدأ بموقف حدث معي شخصيا في بداية التسعينات ؛ وكنت قلقا جدا بشأن انتقالي للعمل من مكان إلي آخر ؛ وكانت توجد معوقات بيروقراطية كثيرة لتعطيل هذا النقل ؛ وفي اجتماع يوم الأثنين قلت له " صلي لي يا سيدنا عندي مشكلة في العمل " دون الدخول في أي تفاصيل ؛ وبعدها بأسبوع وبمجرد ما أسلم عليه فوجئت به يقول " ها عملت أيه ؟ " فتسائلت متعجبا " في أيه يا سيدنا ؟ " رد وقال لي " في المشكلة اللي قلت لي عليها " فذهلت أنه مازال متذكر طلب الصلاة ويهتم أن يسأل في الوقت الذي أنا نفسي صاحب المشكلة قد نسيتها . وطبعا لن أنسي كيف كنت استطيع توجيه أي سؤال له في أي مكان وزمان سواء قبل القداس أو بعده ؛ أو حتي وهو سائر في الطريق أو نازل أو صاعد علي السلالم . ولن أنسي في ليلة الجمعة الكبيرة في كنيسة العذراء أرض الجولف ؛ جاءه طفل صغير لا يتعدي عمره 10 سنوات ؛ ووجه إليه سؤالا ؛ فترك الألوف الملتفة حوله وألتفت للطفل يصغي بكل اهتمام لسؤال الطفل ؛ وكيف أستفاض في الإجابة علي سؤال الطفل ( والمعروف الإرهاق الشديد المصاحب لهذا اليوم من قداس طويل في خميس العهد ؛ وليلة الجمعة الكبيرة ؛ وعنده صباح اليوم التالي الجمعة الكبيرة التي كان لا يخرجها قبل الساعة السابعة مساءا ) . أذكر أيضا عامل البوفيه بالكلية الإكليركية روي لي أكثر من مرة انه قال لي ذات مرة " الانبا غريغوروس من الأساقفة اللي ما عندهمش تمييز بين غني وفقير ؛ سالته أزاي ؛ فقال لي مرة عزمته يحضر فرح بنتي ؛ سألني أمتي ؟ ؛ فلما أخبرته بالميعاد قال لي عندي ارتباط في اليوم ده لو تأجله أسبوع ممكن أجي ؛ فرد عليه العامل أؤجله لو ها تيجي ؛ ثم أضاف العامل بتأثر ؛ وحضر سيدنا وعمل لي اكليل ساعتين زيي زي أي حد عادي !!! . كما روي لنا المرحوم منير عطية أنه يوم نياحة شقيقه المرحوم " أنور عطا الله " كان عنده أكليل في مساء نفس يوم الجناز ؛ وكان الكل متوقع أن يعتذر ؛ ولكن الجميع فوجيء بحضوره ؛ وكتب في مذكرته يقول "" إنني مرتبط بهذا الموعد ؛ وحددوه في هذا الموعد بالذات من أجل أن أتمكن من عقد الأكليل ؛فرأيت لو تأخرت عن الأسرة عقد الأكليل سأصيب بصدمة ؛وخيبة أمل ؛وإحساس بالتشاؤم وما إلي ذلك من مشاعر غير سعيدة أشفق عليهم منها ؛لذلك رأيت ضرورة أن أفي بوعدي مهما كان من أن شقيقي توفي اليوم " .
9-كان لي شرف اللف والتجول مع نيافته في معرض الكتاب الدولي مرتين ( أول مرة كانت صدفة أما المرة الثانية فلقد تسرب لي موعد الزيارة فرتبت نفسي للذهاب في هذا اليوم ) ومن خلال وقفته أمام كتاب خاص بالعلاج بالتداوي بالأعشاب ؛ وبينما هو يتصفحه ؛ تقدمت إليه بائعة الكتب بالمعرض ( وكانت غير مسيحية ) وطلبت منه أن يشرح لها فوائد العلاج بالأعشاب ؛ فأستفاض نيافته في الشرح ( كان نيافته يؤمن جدا بفوائد الغذاء و العلاج من الطبيعة ؛ وكان دائما ما يردد كلما كان الغذاء والدواء علي صورته الطبيعية أو الأقرب إلي الطبيعة ؛ كلما كان ذلك أنفع وأفيد وذلك بقدر الإمكان طبعا ) . والشيء الطريف الذي أذكره جيدا أنه أثناء الحوار توجهت لنيافته بعنوان كتاب قد يعجبه ؛ فعاتبتني البائعة بعنف وقالت لي " حرام عليكم هو معاكم طول السنة ؛ سيبوه لي النص ساعة دي " .
وبعد الحوار توجهت البائعة لزمايلها في المعرض ا وقالت بالحرف الواحد وهي متهللة ( ده انا طلعت بشوية معلومات في الوقفة دي مش ها أقول لكم عليها ) . ولقد رأيت بعيني كيف ألتف حوله الشباب من جميع الأديان وأخذوا يسألونه مختلف الأسئلة في مختلف المواضيع . وأذكر جيدا عندما كنت أوجه نيافته لبعض الأجنحة أنه قال لي " انت عندمك خبرة حلوة أوي بالمعرض " فلما ذكرت له أني احب القراءة قال لي " تستطيع أن تلف العالم كله من خلال المكتبة " .
10- من الذكريات الجميلة التي تظهر عشق نيافته للمعرفة مهما بلغ من العمر ؛ كان معهد الدراسات القبطية قد نظم محاضرة لعالم برديات عالمي حول مخطوطات نجع حمادي ؛ وقبل بداية المحاضرة فوجئنا بنيافته يحضر مبكرا قبل الموعد بنصف ساعة ؛ و يجلس في صفوف الجماهير مثله مثله أي فرد عادي ؛ ونفس المنظر تكرر في ندوات المؤتمر الدولي الأول للدراسات القبطية الذي أنعقد في القاهرة في نوفمبر 1976 .
11- حدث في عام 1992 أن أرادت الأسقفية أن تقيم احتفالا كبيرا لنيافته بمناسبة اليوبيل الفضي لللأسقفية ( 1967- 1992 ) ؛ وقبل موعد الاحتفال بأيام قليلة ؛ تنيح نيافة الأنبا مكسيموس ( 1911- 1992 ) مطران القليوبية ؛ فنادي سيدنا علي تلميذه نصحي وقال له " الحفلة بتاعة اليوبيل تلغي فورا " فقال له نصحي " لكن يا سيدنا أحنا عزمنا الناس وجهزنا فقرات الاحتفال خلاص " فرد سيدنا بحزم قوة " أنا قلت تلغي " فقال له نصحي " طيب يا سيدنا نخليها حاجة ضيقة كده وخلاص " فرد عليه وقال له " برضه أسمها حفلة ؛ مش معقول أخويا يبقي لسة متنيح وأنا اعمل حفلة !!!!
12-أختم هذه الذكريات بموقفين حدثا معي وأثرا في كثيرا ؛ الموقف الأول ؛ ذات مرة سالني " هو أنت أسمك ماجد أيه ؟ " ؛ فأجبته " ماجد كامل يا سيدنا " فقال ضاحكا " بيقول لك إن أتتك المذمة من ناقص قتلك شهادة أني كامل " الموقف الثاني كنت سهران في مكتبه حتي الساعة الثالثة صباحا ( نعم الثالثة صباحا لا يوجد أي خطأ مطبعي ) وعندما هممت بالسلام عليه قبل الإنصراف مسك في يدي بقوة وسألني " قول لي هو أنا أديتك نسخة من الكتاب الجديد بتاعي ؟ " قلت له " لا يا سيدنا " فقام وفتح درج مكتبه وأخرج نسخة من الكتاب ؛ وأمسك القلم وكتب عليه الإهداء التالي " الأبن العزيز الأستاذ ماجد كامل .... مع الدعاء والبركة غريغوروس " وأستمر هكذا حريصا أن يهديني كل مؤلفاته بهذ التوقيع ؛ وما زلت محتفظا بالكثير منها رغم أني أقتنيت الموسوعة الكاملة بعدها وكان يوجد بها هذه الكتب فعلا .
وبعد ؛ هذه بعض من الذكريات التي حدثت أمامي وشاهدتها بنفسي ؛ أرويها للأمانة والتاريخ والرب وضميري شاهد علي صدق كل كلمة قلتها .