حمدى عبد العزيز
(( ..انا لست بائعاً ، ولازبوناً
ولاعامل خدمة
أنا لست مجرماً ، ولامتهرباً
ولامتسولاً
، ولا لصاً ..
انا لست رقماً تأمينياً ، ولاعلامة علي الشاشة
أنا ادفع ضرائبي ، ولاأتأخر عنها
، وأنا فخور بهذا .
أنااتحدث قبل أن اري
بل إنني أنظر في عيون جيراني
واساعدهم
إن استطعت
أنا لا ابحث عن الصدقة
ولا اقبلها
اسمي هو
دانيال بليك
أنا رجل
، ولست كلباً
، ولهذا فأنا أطالب بحقوقي
أطالب أن تعاملوني باحترام
أنا "دانيال بليك"
أنا مواطن
، لاشئ أكثر
ولاشئ أقل ..)
هذا المقطع المتدفق علي يتتالي في حزن إنساني صادق وعميق وسلس ونبيل دون أي افتعال أو أي مسحة من الخطابية علي لسان إمرأة شابة بسيطة لكنها غارقة في الحزن النبيل والدموع علي منصة قداس جنائزي .
، وهذا هو المشهد ماأنهي به المخرج البريطاني الرائع (كين لوتش) فيلمه الجميل (أنا دانيال بليك I, Daniel Blake) الذي حصل به علي جائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان عام 2016
، ونص المقطع عباره عن نص كان قد كتبته الشخصية الرئيسية في الفيلم الذي جسدها الممثل البريطاني "ديف جونز" وهي شخصية "دانيال بليك" النجار البسيط المسن الذي توقف عن العمل نتيجة معاناته من إعتلال القلب وكبر السن ، ومايعانيه طوال الفيلم من انسحاق ومن خيبة أمل متكررة في مسعاه المضني مابين مكاتب الدولة للحصول علي حق الرعاية الصحية أو حق العيش ..
ونص هذا الكلام من المقطع المشار إليه كان في ورقة عثرت عليها صديقته التي تعاني من ظروف مشابهة تحت وطأة الإنسحاق الإجتماعي في جيبه حينما سقط ميتاً في دورة مياه إحدي مكاتب الضمان الإجتماعي علي أثر تكرر تعنت المسئولين في منحه أي من إعانة عجز صحي أو إعانة بطالة ..
وقبل أن تقرأ صديقته الغارقة في دموعها هذا النص علي جيران وأصدقاء النجار العجوز الطيب دانيال بليك الجالسين في مراسم القداس الصباحي المخصص للفقراء في الكنيسة قالت بصوت مهزوم تحت وطأة الحزن العميق ، وبعد أن مسحت دموعها لكي تتحدث :
- هذا هو الكلام الذي كتبه دانيال بليك الذي قتلته الدولة ..
(أنا دانيال بليك) فيلم كتب بشكل بديع ليصور حياة المنسحقين في بريطانيا إحدي المراكز الرأسمالية النيوليبرالية الكبري في العالم ، ويستخدم مخرجه البارع كين لوتش كاميراته كعدسات منظار جراحي يغوص في أحياء الفقراء المشردين في هذا المجتمع الرأسمالي الكبير ويظهر لنا عينات ومشاهد سردية لحياة المنسحقين في الهامش المنضغط لهذا المجتمع من خلال تركيز الضوء السردي علي حياة النجار دانيال بليك ، وجيرانه المنبوذين اجتماعياً بالإضافة إلي صديقته الشابة (كاتي) التي جسدتها الممثلة الإنجليزية الشابة (هايلي سكوايرز) ، والتي يتعرف عليها دانيال في أحد مراكز الضمان الإجتماعي ويصطحبها هي وطفليها الصغيرين (بحكم أقدميته في عالم الانسحاق والفقر) إلي أحد الطوابير المكتظة بالبشر المنتظرين لفتات الطعام المجانية في أحد مراكز إطعام المعدمين (بنك الطعام) وبالتالي يرتبطان بعلاقة إنسانية نبيلة وحنونة كعلاقة الأب بأبنته ، لتستمر مشاهد معاناتها من البطالة وتشكيات إبنتها من سخريات زملائها التلاميذ في المدرسة من ملبسها وحذائها المتمزق الذي تفشل محاولات كاتي المتكرر للصقه ..
، وتتراكم حلقات سلسلة معاناة كاتي تزامناً مع معاناة دانيال الذي لم يجد وسيلة للتعامل مع تجاهله واحتقاره داخل أروقة مكاتب الضمان الإجتماعي إلا أن يملأ جدران السور الرئيسي الملاصق لواجهة ومدخل مركز الضمان الإجتماعي المطل علي الشارع الرئيسي بعبارات أنا دانيال بليك .. أريد حقي في حياة كريمة.. وإلا فإنني لن اغادر ، وماشابه من تلك العبارات التي تبتدئ بعبارة "أنا دانيال بليك" ويتضامن معه بعض المارة وقبل أن يتحلقوا حوله تسرع عناصر الشرطة في الحضور ويتم القبض عليه ودفعه إلي داخل سيارة الشرطة تمهيداً لاقتياده لمركز الشرطة ، ونظراً لأنه رجل مسن ولاتظهر في صحيفته أية سوابق جنائية أو سياسية سابقة يتم إخلاء سبيله مقابل التوقيع علي تعهد بتكرار الأمر لينهزم ويضطر لبيع أثاث منزله لكي يعيش به علي أمل أن ينال يوماً ما إما إعانة العجز الصحي أو إعانة البطالة.
، إلي أن يتوقف قلبه ويسقط منهك الجسد ميتاً في حمام لجنة تقرير إعانة العجز الصحي التي كانت ستقرر البحث في تظلمه وطلبه المتكرر إعادة فحص موقفه في مشاهد بارعة ودالة وعميقة قدمها المخرج البريطاني الشهير كين لوتش بلغة سينمائية شعرية حتي انك تشعر أن الفيلم قصيدة بصرية جميلة تنعي بؤس الإنسان تحت وطأة أقدام التوحش الرأسمالي المتزامن مع ظلم وقهر الدولة .