بقلم- د. عبدالخالق حسين
لكي أتجنب التعميم، أقول أن بعض السياسيين العراقيين، وليس كلهم، يعانون من الانفصام عن الواقع العراقي، فمازالوا يبحثون عن الفخفخة والأبهة على حساب معاناة الجماهير. ولتحقيق أغراضهم هذه راحوا يطلقون تصريحات ودعوات الغرض منها الظهور في الإعلام. وعلى سبيل المثال لا الحصر، قرأت على مواقع الانترنت خبراً مفاده أن الأمين العام للكتلة البيضاء، السيد جمال البطيخ، طالب وفد العراق في قمة عدم الانحياز الى دعوة القمة لاستضافة العراق لدورتها المقبلة". وأضاف:"أن استضافة العراق لاجتماعات القمة العربية ومن ثم اجتماعات 5+1 خير دليل على قدرته لاستضافة اعمال قمة عدم الانحياز المقبلة" ، مشدداً على " ضرورة ان يكون العراق المستضيف القادم للدورة المقبلة".(1)
يبدو أن السيد النائب، جمال البطيخ منفصل تماماً عن الواقع العراقي المؤلم، ولا يحس بآلام الملايين من الفقراء والأرامل واليتامى والمعوقين الذين هم نتاج حروب البعث العبثية أيام حكمه الجائر، وأعمال فلوله الإرهابية بعد سقوطه. فمن قراءة تعليقات القراء على هذا البيان العتيد، يعرف كل ذي عقل سليم، أن السيد البطيخ غير مهتم بآلام وآمال هذه الشريحة الواسعة من العراقيين الذين هم أولى بالمال العراقي من صرفه على المؤتمرات الدولية. كما نعرف من تعليقات القراء أيضاً، أن الجماهير هم أكثر وعياً واهتماماً ومعرفة بالأولويات من السياسيين الذين يمثلونهم في البرلمان. فجميع التعليقات التي قرأتها على موقع عراق القانون مثلاً، تسخر من السيد النائب جمال البطيخ على اقتراحه، عدا تعليق واحد، قائلاً: (اقتراح رائع)، وعلى الأغلب أراد به التهكم. فهل انتهت مشاكل العراق المهمة التي مازالت تهدد وجوده كدولة، لكي تصرف المليارات من أموال الشعب على مؤتمرات لا تسمن ولا تغني من جوع؟
فالقمة العربية كلفت الخزينة العراقية نحو مليار دولار، إضافة إلى إشغال الأجهزة الأمنية بأمن وحراسة الضيوف، وتعطيل الدوام الرسمي وحركة المرور في بغداد لمدة أسبوع. وهذه الإجراءات كلفت الخزينة مبالغ ضخمة بجميع المقاييس. والله يعلم كم كلفت (اجتماعات 5+1). وإذا أرادت الحكومة تنفيذ طلب السيد النائب البطيخ باستضافة مؤتمر عدم الانحياز القادم، وعدد هذه الدول نحو 120 دولة، ونحو 17 دولة بصفة مراقب، يعني عقد هكذا مؤتمر سيكلف خزينة الدولة أضعاف ما كلفته القمة العربية. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا هذا البذخ الحاتمي؟ وما فائدة العراق من عقد هذا المؤتمر في عاصمته؟ يقول المثل العربي: (وهب الأمير ما لا يملك).
لقد كتب المفكر البحريني، الدكتور عبدالله المدني، مقالاً قيماً حول عقد مؤتمر حركة عدم الانحياز في طهران بعنوان: (الحركة التي خف بريقها وانتهت صلاحيتها) قال بحق: "كان للحركة بريقها وجدواها ومبرراتها زمن الحرب الباردة، وفي حقبة الثنائية القطبية والتنافر الايديولوجي ما بين المعسكرين الشرقي والغربي، مثلما كانت لها دواعيها في عصر حروب الاستقلال التي خاضتها دول وشعوب العالم الثالث للإنعتاق من قيود المستعمر الاجنبي وجبروته، خصوصا قبل إختفاء آبائها المؤسسين موتا أو إغتيالا أو نفيا أو خروجا من السلطة. غير أن كل هذه العوامل التي أملت في خمسينات وستينات القرن الماضي قيام الحركة، بدءا من الإجتماع التمهيدي في قمة الدول الأفرو آسيوية في باندونغ في إبريل عام 1955 التي خصصت لوضع الخطوط العريضة للسياسات الخارجية لدول العالم الثالث المتحررة وفق المباديء الخمسة المعروفة بإسم "البانجشيلا" (السلام والتعايش السلمي، تعزيز المصالح المشتركة وتبادل المنافع، إحترام سيادة الدول وإستقلالها، الإمتناع عن تهديدها أو الإعتداء عليها، عدم التدخل في شئونها الداخلية) ومرورا بإجتماعات قادة هذه الدول في نيويورك على هامش الدورة السنوية الخامسة عشرة للأمم المتحدة في أكتوبر عام 1960، وإنتهاء بأول قمة رسمية للحركة في بلغراد في سبتمبر عام 1961، صارت شيئا من الماضي الذي لا نجد له ذكرا سوى في الكتب العتيقة."(2)
نعم، ما هي مبررات وجود هذه الحركة الآن بعد انتهاء الحرب الباردة، واختفاء القطب السوفيتي؟ في الحقيقة لا يوجد أي مبرر لهذه الحركة الآن، ناهيك عن عقد مؤتمراتها الباهظة التكاليف، وبالأخص في بغداد. يجب على سياسينا أن يكونوا في حالة تماس مباشر مع الجماهير والكف عن تبذير الأموال لأغراض دعائية وشخصية، وعليهم الاهتمام بالأولويات التي لها علاقة مباشرة بحياة المواطنين.
فبالنسبة لملايين الناس الذين يعانون من فقدان الأمن والخدمات، والسكن اللائق، أرى أولويات الحكومة وحسب أهميتها كالتالي:
أولاً، تحقيق الأمن ودحر فلول الإرهاب. صحيح أن الحكومة حققت نجاحات لا يستهان بها في هذا المضمار، ولكن الإرهاب مازال ينغص حياة أبناء الشعب.
ثانياً، بناء المؤسسات والأجهزة الأمنية، الجيش والقوات المسلحة والشرطة والاستخبارات، وغيرها من أجل دحر الإرهاب بشكل كامل، وحماية حدود البلاد من العدوان الخارجي.
ثالثاً، توفير الخدمات، الكهرباء والماء ومجاري الصرف الصحي، وشن حملة تنظيف المدن من تراكم القمامة والأوساخ.
رابعاً، توفير حياة كريمة لشريحة واسعة من الأرامل واليتامى والمعوقين، وذلك ببناء دور سكنية للذين لا سكن لهم، خاصة من سكنة بيوت الصفيح، والذين احتلوا أبنية حكومية مرغمين،
خامساً، توفير العمل للعاطلين، وخاصة عشرات الألوف من خريجي الجامعات. إذ ما الفائدة من صرف مليارات الدولارات على أكثر من عشرين جامعة، وفتح المزيد منها، دون وجود عمل للخريجين؟
خلاصة القول، من الخطأ صرف أموال الشعب على استضافة مؤتمرات دولية لا نفع ولا جدوى منها، إلا بعد تحقيق الأهداف المذكورة أعلاه، فأبناء الشعب العراقي هم أولى بأموالهم من صرفها على أمور دعائية تافهة مثل عقد مؤتمرات دولية لا تسمن ولا تغني من جوع.
abdulkhaliq.hussein@btinternet.com العنوان الإلكتروني
http://www.abdulkhaliqhussein.nl/ الموقع الشخصي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مواد ذات علاقة بالمقال
1- الكتلة البيضاء تطالب باستضافة اعمال قمة عدم الانحياز المقبلة
http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=21340
2- د. عبد الله المدني: الحركة التي خفت بريقها وانتهت صلاحيتها
http://www.akhbaar.org/home/2012/8/134726.html