فاطمة ناعوت
مهندس طيران ناجح تسبّب فى قتل سبعة أشخاص بسيارته. أظلمت الدنيا أمام عينيه وفكّر ماذا يفعل ليخرجَ من خندق الشعور المُّر بالذنب. لو أنهى حياته، قد يستريح من عذاب الضمير، لكنه لن يُعيد للحياة سبع أرواح أزهقها فى لحظةٍ، غفل فيها عن قواد سيارته. قرّر الشابُّ أن يقتطع من جسده سبعة أعضاء حيّة ليهبَها لسبعة مأزومين ينتظرون الموت. وكأنما يقايضُ الحياةَ: استلَّ منها سبعةَ أرواح، فيمنحها بالمقابل سبعةً أخرى. سبعةُ أعضاء من جسده وزعها على هذا النحو: شقيقُه، المصاب بسرطان الرئة، منحه جزءًا من رئته، ومنح سيدةً فَصًّا من كبده. وبعدما تعافت دلّته على سيدة تقاسى بطشَ رجل يستعبدها مع طفليها، فمنحها منزله الجميل على شاطئ الأطلنطى. ثم منح إحدى كليتيه لرجل مصاب بالفشل الكلوى، ثم رقد ساكنًا ليمتصَّ الأطباءُ النخاعَ من عظامه بمحقن غليظ، معاينًا ألمًا تنوء به الجبال، ليحقنوه فى جسد طفل مصابٍ بسرطان النخاع.
وفى الأخير، وقع فى هوى شابة تعيش آخر أيامها، بسبب ضعف وراثىّ حادٍّ فى عضلة القلب. فكّر كيف ينقذها من الموت. رجع بذاكرته إلى طفولته، حينما اصطحبه أبوه إلى الأكواريوم لمشاهدة الأسماك، شاهد قنديل البحر Jellyfish، وافتتن بجماله وليونته الفائقة وجسده الهلامى الشفاف، وقال لأبيه إنه أجمل مخلوق وقعت عليه عيناه، فأخبره أبوه أن هذا الكائن الفاتن يحمل فى جسده أشد السموم فتكًا. فقرر أن ينقذ حبيبته بمساعدة قنديل البحر القاتل. أحضر حوضًا ضخمًا من الزجاج، وراح يربّى قنديل بحر فى غرفته. زار حبيبته على فراش الموت فى المستشفى ثم ودّعها وعاد إلى بيته. ملأ البانيو بجرش الثلج ورقد حتى غمره الماء الثلجىّ. وبعدما تخدّر الجسد، جاء بقنديل البحر ليسبح جواره ويلسع معصمه لسعةً سامّة، بعدما اتصل بالإسعاف ليخبرهم أنه ينوى الانتحار. نُقل إلى المستشفى فى محاولة يائسة لإنقاذه. وهناك وجدوا الوصيةَ التى أعلن فيها تبرعه بقلبه إلى حبيبته المحتضرة لتبدأ حياة جديدةً بقلب سليم، أنهكه الإيثار والشعور بالذنب. بهذا يكون قد منح أشخاصًا ستة، ستَّ قطعٍ من جسده كعطايا لا تُرَد. أما القطعة السابعة، فكانت عينيه اللتين تبرع بهما لشابٍّ جميل كفيف، موسيقيٍّ موهوب. حدث هذا فى الفيلم الأمريكى الموجع: «سبعة أرطال Seven Pounds» بطولة «ويل سميث».
لكن أحداثًا مشابهة حدثت فى الواقع كذلك. صبيّةٌ بريطانية صغيرة فى الثالثة عشرة من عمرها اسمها «جميما لايزيل» Jemima Layzell، توفيت عام ٢٠١٢ بسبب تمدد الأوعية الدموية فى الدماغ.. لكنها أوصت قبل رحيلها بالتبرع بأعضائها لمن يحتاج إليها، فأنقذت بذلك حياة سبعة أشخاص على وشك الموت، من بينهم خمسة أطفال منحتهم من جسدها النبيل: القلب والرئتين والكليتين والبنكرياس والكبد والأمعاء.
فى حفل جميل حضرناه الأسبوع الماضى فى «قصر عابدين» العريق، أطلق الكاتب الصديق الطبيب «خالد منتصر» مبادرة تحُثُّ المثقفين على تكريس ثقافة التبرع بالأعضاء بعد الوفاة لدى المجتمع المصرى؛ لأن مصر قد تأخرت كثيرًا فى إنشاء بنك للأعضاء البشرية على غرار معظم دول العالم والعديد من الدول العربية الشقيقة. وقال الشيخ «خالد الجندى» عضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، إن التبرع بالأعضاء ليس حرامًا، بل هو أمرٌ محمود وطيب، وتساءل: هل هناك أسمى من إنقاذ حياة إنسان؟.. إنها رسالة كبرى وهى تطبيق للآية الكريمة: «ومَن أحياها فكأنما أحيا النَّاسَ جميعا» (سورة المائدة). وأعلنت الفنانة «إلهام شاهين»، والنائبة «فريدة الشوباشي»، والمخرج «محمد العدل» والفنان «صلاح عبدالله»، وكثيرٌ غيرهم من الشارع الثقافى والفنى تبرعهم بالأعضاء بعد الوفاة لصالح المصابين والمرضى وللدراسة فى كليات الطب. لابد أن نُقرَّ أن وجود بنك للأعضاء البشرية وبنوك للقرنية فى مصر سوف يخلق قناة شرعية ونبيلة لتيسير نقل الأعضاء للمرضى والمحتضرين، وهو كذلك السبيل الأوحد للقضاء على جريمة الاتجار بالأعضاء واختطاف الأطفال لسرقة أعضائهم.
أجسامُنا البشرية ثروةٌ ربانية عظمى يمنحُها الُله لنا لنحيا، ثم يكون مثواها التراب. فهل أرقى وأنبل من أن نمنحها سنواتٍ إضافيةً مع إنسان كسير يتعذب؟!.
يقول الجدُّ المصريُّ القديم فى اعترافاته الإيجابية: «كنتُ عينًا للكفيف ويدًا للمشلول وساقًا للكسيح».. وهذا المعنى المجازى النبيل قد يتجسد عمليًّا فى إقرار المُشرِّع المصرى إنشاء بنك للأعضاء فى مصر النبيلة التى علّمت العالم قانون الإنسانية فى فجر التاريخ.
«الدينُ لله.. والوطنُ لمن يعملُ لصالح الوطن».
نقلا عن المصرى اليوم
