عادل نعمان
قلنا إن الدولة «المدنية الديمقراطية الليبرالية» وراءها رغبات شعبية وانتقاءات حرة وقرارات علمية مدروسة، وليست رغبات زمرة من أهل الحل والعقد، وانتقاءات أسرى مقهورين.
وقرارات مكرهين مجبرين، أو الغلبة لها بحد السيف كما الدولة الدينية. وتلتزم الدولة المدنية بالحرية والديمقراطية والعدالة والمواطنة والمساواة بين الجميع، لا سلطة فوق سلطة القانون الوضعى، ولا حرية تعلو على حرية الفرد، ولا منهج مقبول سوى المنهج العلمى.
فمن كان هذا اختياره وانتقاءه وجب عليه الالتزام بكل الاشتراطات والمعايير، وأى انتهاك يؤدى حتمًا إلى انهيار الكيان والبناء، ولو ظل قائمًا مائلًا استوجب الإزالة والإزاحة.
إلا أنه قد راعنى أن الدستور المصرى يمثل عائقًا أمام الوصول إلى منافذ هذه الدولة بأحماله وأثقاله وكثرة بنوده التى تزيد على المائتين وخمسين بندًا، فإذا دفعنا بند فيه صوب الدولة المدنية، سارع بندان إلى دفعنا ناحية الدولة الدينية، ومثلهما معًا إلى ديكتاتورية الفرد، وهذا سبب مصائبنا منذ زمن، ولا أتصور أننا بحاجة إلى كل هذه البنود والأبواب، إذا كانت المجاملة والمهادنة قد ذهبتا إلى حال سبيلهما وليس لهما من مؤيد أو نصير كما يزعمون، وكانت لجنة الخمسين قد أفرطت وأفاضت وتجاوزت حدود المجاملات وزادت من البنود المتضاربة قدر استمالة كل الأطراف، حتى يتراجع مَن غضب عن غضبه، ويعود مَن ثار عن ثورته، ويرضى مَن تمرد وخاصم وعاند، ويكافأ من أيد وعانق.
والشعب بعيد عن حسابات الجميع، وكأنها «تكية» للجنة الخمسين «وعزومة على حساب صاحب المحل». فقد وجب أن يقوم خبراء دستوريون بدراسته وتقديم التوصيات اللازمة حول تعديله أو تغييره بما يتفق مع حقوق الدولة المدنية الجديدة، وضمان الفصل بين السلطات فصلًا تامًا حقيقيًا دون تزييف أو تجميل.
ولا يقتصر الأمر على التعديل أو التغيير قدر وجوب التزام القائمين عليه بما نص وألزم وقرر.. فإذا كانت الحرية الشخصية حقًا طبيعيًا، مصونة لا تُمس، وإذا كانت الكرامة حقًا لكل إنسان لا يجوز المساس بها، وتلتزم الدولة باحترامها وحمايتها.
وإذا كان التعذيب بكل صوره وأشكاله جريمة لا تسقط بالتقادم.. وإذا كان المواطنون لدى القانون سواء وهم متساوون فى الحقوق والحريات والواجبات العامة لا تمييز بينهم.. فإنه يصبح من العبث عدم وجود بناء سياسى حر محايد يمسك بيد الشعب، ويضرب على يد من يخرج على الدستور حتى لا تتغول سلطة على الأخرى.. أو تكيل الدولة بمكيالين.
أما عن البناء السياسى للأحزاب، فهو برمته لا يصلح لنقل «عربة أنفار» من نجع إلى قرية، وليس نقل شعب بالكامل إلى مشارف الدولة المدنية الحديثة.. والحق أقول إن العيب ليس فى الأحزاب فقط، بل فى البناء السياسى إلى حد كبير..
النية كانت مبيتة أن تكون هذه البناءات كلها مهلهلة ومخترقة ومهترئة ومتطاحنة، وهو أمر قد يبدو سهلًا ومريحًا فى بداية بناء الدول أو الأنظمة، إلا أن هذه الدول وهذه الأنظمة حين تبحث لها عن ظهير سياسى يحميها يكون من الضعف والهزال حتى عن حماية نفسه.
البناء السياسى الصحيح هو الظهير الحر للأنظمة الأمينة، يتساندان معًا لمصلحة الشعب، ويتصالحان معًا إذا وجبت المصالحة، ولا يتخاصمان إلا إذا تقاطعت مصلحة أيهما مع مصالح الناس.
المثلث متساوى الأضلاع فى البناء السياسى (شعب وأحزاب ودولة).. وأكاد أجزم أن الثلاثة على هذا النحو لا يكفيهم حسن النوايا فقط، بل ينقص بعضهم الرغبة فى الأداء والبعض الآخر القدرة عليه..
وإن كانت الدولة تتحمل النصيب الأكبر فى الحالتين، فإننا نؤكد أن البناء السياسى الآن يفرض نفسه، ويبدأ من الدولة، تليها الأحزاب، ثم يستجيب الشعب لصدق الطرفين.
الدولة المدنية بناء دستورى متكامل ومتوافق، وبناء سياسى رشيد بعيدًا عن عبث الدولة وتدخلاتها، وإلا نصبح جميعًا فى طريق الإزالة والهدم.
(الدولة المدنية هى الحل) الأسبوع القادم
نقلا عن المصرى اليوم