بقلم- محمد حسين يونس
السكان القدماء لأحواض الأنهار كانت أديانهم (المنقرضة)- في أغلبها- تعتنق فكرة التجدد بعد الفناء، أو استنساخ الحي من الميت، فالبيئة الزراعية من خلال دورات حياة النبات وهجرة الأسماك والطيور والحشرات الموسمية، كانت موحية بدورة كونية أزلية تتبعها كل ظواهر الطبيعة، بما في ذلك الإنسان، والشمس، والكواكب (تشرق، تنمو وتزداد حرارتها، تتوسط السماء، تنخفض وتقل حرارتها، تغرب)، فيضان وهبوط النهر، اختلافات المناخ، وظواهر أخرى عديدة تجري على نفس المنوال، فينسجون حولها القصص والأساطير التي أخذت شكل المقدس فالإيمان لتصبح في النهاية دين.
ديانة أوزيريس، الإنسان المغتال الذي عاد للحياة ليحكم العالم الآخر، هي الأشهر بين ديانات التجدد، والتي استمرت في مصر منذ عصر ما قبل الأسرات حتى زمن البطالسة.. الأوزيرية "تعتبر بدون شك أقدم ديانات المصريين وعناصرها تمثل أقدم عناصر ديانات الأسرات وأكثرها استمرارًا حتى أن عبدة حورس الذين جاءوا بالديانة الشمسية معهم إلى مصر من الشرق لم ينجحوا أبدًا في زحزحة أوزيريس عن مكانته المرموقة" (سير والاس بدج).
في مصر اختلطت ديانتي التجدد الأوزيري والعبادات الشمسية، ورغم أن الديانة الأولى آمن بها الشعب والأخرى كانت للملوك والحكام والكهنة، ورغم اختلاف الطقوس والاحتفالات والتوجهات، إلا أن كلاهما كان يطلق على المقدس الإلهي (نتر)، وعلي الإناث منهم (نترت)، وكانت النترت مساوية للنتر، ولها نفس القدر من التقدير والتقديس والاحترام، حتى أن نصف أعضاء التاسوع المقدس كان دائمًا من النترات اللائي لهن مهام تتكامل مع قرنائهم الذكور، جب (رب الأرض) ونوت (ربة السماء)، وأوزيريس (رب التجدد) وإيزيس (ربة السحر والطب)، وشو (رب الهواء)، وتفنوت (ربة الرطوبة)، وهكذا نجد أمثلة عديدة أهمها الزوجان تحوت وماعت (النتران) اللذان كانا في مركب رع المسمي (ملايين السنين) عندما انبثق من أعماق المحيط الأولى (نو) بمعني أنهما موجودان منذ الأزل.
"تحوت" هو الذي يحسب في السماء، ويعد النجوم، ويقيس الأرض، ويحصي كل ما عليها، ويمثل كلا من قلب ولسان "رع"، بمعنى أنه القدرتين الذهنية والسببية، كذلك الوسيلة التي يترجم ويحقق بها "رع" إرادته، فـ"تحوت" هو الذي نطق بالكلمات التي نتج عنها خلق السماء والأرض، وبقدراته يحافظ على اتزان القوى في السماء، وبمهارته العظمي في الرياضيات السماوية تيسر له الاستخدام الأمثل لقوانين "ماعت" التي استقر على أساسها الكون، وهو الذى يحرك الأجسام السماوية ويحدد أزمنتها وفصولها، وهو الذي يعرف الحديث الرباني. هذه كانت مكانته السامية في الديانة الشمسية، أما في الديانة الأوزيرية فله دور أعظم، إذ هو الذى علم إيزيس الكلمات التي ساعدتها على إعادة الحياة للجسد الميت بشكل يسمح بمنحها طفلًا. وفي المحكمة الأوزيرية نجده يمثل دور النتر المسجل، وقراره مقبول لدى المحكمين الذين يصدقون عليه ويتقدمون به إلى أوزيريس، فهو إذا قال إن روح الميت قد وزنت وأن الحقيقة قد عُرفت، قال المحكمون: "نطق تحوت بالصدق والمتوفي من الأبرار المقدسين". ويترتب على هذا مباشرة أن يمنح مكانا مع أوزيريس في السخيت حيتبو أو حقول الاليسيان (الجنة الأوزيرية).
ترتبط "ماعت" بشكل لصيق بـ"تحوت" بحيث يمكن اعتبارها قرينته الأنثى التي تلازمه دومًا في قارب (ملايين السنين)، تقود مركب "رع" (منذ بداية الوجود) التي تبحر به الشمس في المحيط السماوى، على الصراط المستقيم الذي تتبعه في رحلتها من الشروق إلى الغروب، تعبيرًا عن الانتظام. ماعت تعني الاستقامة، والمصريون استخدموها بمعني العدل، والصدق، والحق، والواقع، والنقاء، والأصالة والصلاح، أي أن ماعت كانت التجسيد المادي والمعنوي للحق، للقانون والنظام.
أما بالنسبة للديانة الأوزيرية، فالقاعة التي تضم 42 من محكمي الأقاليم لتستمع إلى اعترافات السلبية للموتي كانت تُسمي قاعة ماعت، وكانت كفة الميزان الذي يوزن عليها القلب يُوضع في مقابلها ريشة ماعت لضمان العدالة.
"تحوت"، عالم رياضيات تسيير الكون، مبتكر التقويم واللغة المدونة، الفيلسوف مخطط الوجود ومنشئه بما نطق، و"ماعت" أسمى فكرة مادية ومعنوية للقانون والنظام، الاستقامة، الحق، العدالة والسلوك القويم عندما تزاوجا أنتجا شعبًا استحق بقيمه السامية وعلمه أن يكون أول من يحمل مشعل حضارة الإنسان ويظل حتى خلال زمن الاستعمار الإغريقي نورًا هاديًا يشع من العاصمة الجديدة فيغمر العالم القديم.
عندما حرق البرابرة الرومان والعرب مكتبتي "الإسكندرية"، واستخدم الغزاة أوراق الكتب كوقود لحمًّامات المدينة لشهور، انقرضت اللغة التي ابتكرها "تحوت"، وخفتت العلوم التي أسسها، وانزاحت القيم التي وضعتها "ماعت"، وغرقت "مصر" في سبات عميق لألفي سنة لم تفق منه، منتظرة أن يعود لها علم وعدل (النتران) ليغمرا بتحضرهما القلب المنفصم والعقل البليد الراكد على رجاء أن يستعيد الوطن مجد بُني في يوم ما على الضمير والمبادىء المصرية.