يوسف سيدهم
حتما هو حدث تاريخي طال انتظاره, أن تطلق الدولة المصرية في 11 سبتمبر الماضي وثيقة الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان التي تعد انعكاسا غير مسبوق للإرادة السياسية المصرية, وثمرة عمل دؤوب للجنة العليا الدائمة لحقوق الإنسان, التي تشكلت بقرار رئيس الوزراء عام 2018 برئاسة وزير الخارجية وعضوية كوكبة من الشخصيات المصرية ذات الخبرة في العمل الحقوقي والعام والمجتمع المدني.
ولا يمكن إغفال علامة مضيئة اقترن بها الاحتفال بإطلاق تلك الاستراتيجية وهي المشاركة الفعالة لرئيس الجمهورية والكلمة التي أسهم بها في تقديمها للمجتمع المصري والتي تضمنت ترسيخ كافة الحقوق والحريات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية للمواطن والتأكيد علي المساواة المطلقة بين المواطنين ورفع كافة أشكال التمييز بينهم علي أرضية المواطنة… وكلها مقومات ثابتة في الدستور المصري. أما العلامة الفارقة التي شهدها ذلك الاحتفال فهي المبادرة الشجاعة للرئيس السيسي باقتحام الملف المسكوت عنه: ملف حرية المعتقد.. ملف الحرية الدينية وما عبر عنه في هذا الصدد بأن ليس لأي مواطن فضل -وأضيف أنا وأقول: ولا ذنب- في الدين الذي يتبعه, فالغالبية العظمي من المصريين ولدوا علي دين آبائهم وعلينا أن نقبل ذلك ولا نقاومه بأي شكل من
الأشكال.. بل أضاف السيسي في شجاعة غير مسبوقة للقيادة السياسية المصرية أننا لا يعنينا أية ديانة يتبعها المواطن, بل لا يعنينا كونه يؤمن بديانة أو لا يؤمن, ويجب أن ندرك أن كل إنسان سيقف يوما أمام الله الديان العادل ليقدم حسابا عما فعل وليس لأي إنسان آخر الحق في حسابه أو تقييم معتقده أو محاولة تغيير ذلك المعتقد.
الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان تزخر بالتبشير بآليات ومعايير الارتقاء بمنظومة حقوق الإنسان المصري, وتعبد الطريق لمسار يدعو للتفاؤل نحو الدفع بتلك المنظومة لتتوافق مع كافة الاتفاقيات والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان التي صادقت عليها مصر منذ عهود سابقة لكنها دأبت علي التحفظ علي بعض بنودها أو غض البصر عن تطبيق بعض جوانبها, الأمر الذي كان ينعكس سلبا علي تقارير المنظمات الدولية بشأن ملف حقوق الإنسان المصري.
إذا.. المنطوق به في الاستراتيجية يدعو للارتياح والتفاؤل, علاوة علي أن دعوة المجتمع المدني المصري ليكون شريكا في تنفيذ الاستراتيجية هي دعوة مهمة جدا تنطوي علي رد اعتبار لجسد المجتمع المدني المصري, واعتراف بأنه له دور لا يمكن إغفاله في إنجاحها وأن الأمر لا يمكن أن يكون مقصورا علي انفراد مؤسسات الدولة وحدها بإدارة هذا الملف.. ويبقي في النهاية أمر مهم -عبر عنه بعض من تصدوا لفحص وتقييم الاستراتيجية- هو عدم الاكتفاء بما تبشر به من أهداف مطلقة بل التطلع إلي وضع مؤشرات لقياس الأداء وآليات للتقييم الدوري المستمر.. لئلا يتحول الأمر مع مرور الزمن إلي مجرد زهو أو تشدق بعبارات رنانة غير معاشة.
ولعل والأمر كذلك بالنسبة لديباجة الاستراتيجية وأهدافها, فإني أتطلع أن يتم اتخاذ الخطوات المناسبة لاعتبارها وثيقة وطنية تدرس لتلاميذ وطلبة مدارسنا المصرية -بأمل غرس ثقافة راقية لحقوق الإنسان في عقولهم حتي يشبوا متسلحين بمبادئها ويعيشوا ملتزمين بفكرها.
أما بعد تناول المنطوق به في الاستراتيجية, دعوني أتطرق إلي ما خلت منه أو ما أعتبره المسكوت عنه, وذلك ليس انتقادا لها أو نعتها بأية نقيصة, فهي إنجاز تقدمي بجميع المقاييس, إنما لأن من حقي -ومن حق كثيرين غيري من المصريين- أن نحلم بتجاوز ثوابت واقعنا إلي آفاق أرحب أدركها العالم المتقدم قبلنا… وإذ أعترف أن ما لا يدرك كله لا يترك كله أظل محتفيا بالاستراتيجية, حالما بأكثر منها:
** فصل الدين عن الدولة: هذا أمر مسكوت عنه دعا إليه المعنيون بحقوق الإنسان إبان صياغة دستور 2014 لكن يبدو أن الشارع المصري لم يكن مستعدا لاستقباله آنذاك, وكان من المفهوم وقتها صونا للوحدة الوطنية وحرصا علي السلام المجتمعي إبقاء الأمور علي ما هي عليه والنص علي أن دين الدولة هو الإسلام… لكن بعد المبادرة الشجاعة للرئيس السيسي في تقديمه للاستراتيجية يرتفع الأمل نحو ترسيخ حرية المعتقد -أي معتقد أو لا معتقد- ويأتي اليوم الذي تكون الدولة مدنية والدين للمواطنين بحيث من شاء فليؤمن ومن شاء فلا يؤمن.
** تشريع قوانين وضعية مدنية تطبق علي المواطنين المصريين في جميع نواحي الحياة وتعتبر هي الحدود المدنية التي يلتزم بها المواطن أمام الدولة, وله بعد ذلك أن يمتثل لأية شرائع أو تشريعات يتطلبها معتقده أو المؤسسة الدينية التي ينتمي إليها بدون انحياز الدولة لهذا أو ذاك من مواطنيها, أو سلوكها بما يعكس التمييز بينهم.
*** هذه نماذج من الأحلام المستقبلية التي لا يقتصر عليها ملف المسكوت عنه.