د. أحمد الخميسي
هناك نساء يندلعن كالزهور الحمراء في التاريخ، ويعبرن بالعطر من بلد لآخر، ومن زمن لآخر، من أولئك الروسية " لاريسا رايسنر" رائعة الجمال، صانعة الثورة، التي وصفها الأديب فاديم أندرييف قائلا : " لم يكن هناك رجل واحد يمر بها دون أن يتجمد فى الأرض كالعامود يتابعها بنظراته حتى تختفى، ولم يكن ثمة شخص يجرؤ على الاقتراب منها، فالكبرياء التى تشبعت بها كل حركة من حركاتها وكل انعطافة من رأسها كانت تحميها بجدار صخرى لا يدمر". ورسم صورتها الكاتب الشهير يورى ليبيدينسكى قائلا : " لم يكن ذلك جمالا عاديا ، ولا مألوفا ، فقد اختفت فيها نهائيا تلك النعومة الانثوية التى نعرفها، وبدت كإلهة أغريقية". وقد أمست لاريسا أسطورة في أعقاب ثورة 1917 الروسية، بعد ظهورها ليلة استيلاء الثوار على القصر الشتوي للامبراطور على سطح المدرعة" أفرورا"، وحدها بين البحارة الحمر، الذين يعلو الغضب وجوههم، المرأة الوحيدة التي ظهرت بين جموع الرجال وقد تدلت من رأسها ضفيرتان من الشعر الأسود الفاحم، بوجه شاحب، لا تلوح فيه قطرة دم واحدة كأنها تمثال من المرمر للجمال. وكان مقدرا لها أن تكون هي - ولا أحد سواها - من يعطي الأمر بإطلاق المدافع من المدرعة البحرية على القصر الشتوي، لتعلن بذلك انتصار ثورة 1917 التي بدلت روسيا. وبظهور لاريسا برز نموذج المرأة الروسية الثائرة على غرار نساء الثورة الفرنسيات، نموذج أقامته هي بلحظات عمرها القلق كله والذي لم يتجاوز الإحدى والثلاثين سنة. وكانت لاريسا منذ نعومة أظفارها ثائرة، معتدة بنفسها، وعاونت والدها ميخائيل رايسنر على إصدار مجلة أدبية، ثم احترفت كتابة الشعر، ولاقت قصائدها المبكرة قبولا واسعا، ثم انضمت إلى الثوار، وقدر لها أن تعطي الأوامر بهدم آخر معقل للقياصرة.
وعندما نشبت الحرب الأهلية بعد الثورة قطعت لاريسا أنهار: الفولجا،والكاما، والبيلايا، مع الأسطول الذى ساعد الجيش الأحمر على استعادة المدن والقرى من أيدى الحرس الأبيض، وقد تحولت هذه المسيرة النهرية إلى أسطورة بفضل شخصية لاريسا وبفضل قلمها وقصائدها. وفي تلك الرحلة الطويلة القاسية، وفي غيرها ظلت لاريسا تصون الطفولة في قلبها، فكانت على ظهر السفن ترتدى مختلف الأزياء، وتظهر تارة فى فساتين فاخرة، وتارة أخرى في أزياء الفتيات الصغيرات الطائشات، وتتحرك بمرح ونزق، وفي كل ذلك كانت تضوي بكبرياء الأنثى الرقيقة مرة، وبحدة المرأة الثائرة مرات أخرى. وخلال مرافقتها للأسطول كانت تندفع نحو الخطر، وتفتش عنه لتلقي بنفسها إليه. ويقص من اختلطوا بها فى تلك الرحلة أنها كانت تهوى الوقوف بالقرب من عجلة قيادة السفينة مكشوفة لرصاص القوات المعادية للثورة. وقد دخلت لاريسا تاريخ المرأة في العالم من عدة أبواب، فقد كانت شاعرة ملهمة، وكانت ثائرة تشق طريقها عبر وحل المستنقعات إلى مخيمات الاعداء، وكانت تقوم بدور المسئول السياسى الذى يحرض المقاتلين ويقودهم والصحفية القادرة على انجاز أصعب المهام. كانت تلقى بجسمها النحيل تحت الثلوج وفى النيران والصقيع وتشرب بلا خوف مياه البرك التى ركدت وتمتطى صهوة الخيول جنبا إلى جنب مع الفرسان من الرجال، ثم تملأ قلبها بمشاعر الخطر ومتعة أنها قد تتلقى رصاصة فى أي لحظة! ثم تسعد حين لا يصيبها الرصاص! وفي لحظة من لحظات المقامرة والشجاعة أصيبت لاريسا فى إحدى جبهات الحرب الأهلية بالحمى الاستوائية. عذبها المرض، وعندما دنا الموت منها أفاقت فى اللحظات الأخيرة وكان التيفود ينهشها وقالت:" الأن أحس بمدى الخطر". كانت امرأة من نار وعطر، وحزمة من التناقضات الحارة ، المتوهجة ، والزهو بالنفس، والعشق اللا متناهى للحياة، وقد أضاءت الثورة و أحداثها الضخام تلك الصفات فيها. وعندما رحلت لاريسا عن عالمنا وهي في الحادية والثلاثين، تركت خلفها من حياتها وشجاعتها سحابة عطر، تنتقل من وطن لوطن، وغنوة لكل امرأة : كوني قوية، كوني جميلة، كوني وردة من النار والعطر.
د. أحمد الخميسي. قاص وكاتب صحفي مصري