ترجمة : نجيب محفوظ نجيبب
كاتب و باحث و مترجم
كان الدكتور بونونفان يفتش فى ذاكرته، مكررًا بصوت خافت: "ذكرى من عيد الميلاد؟ ... ذكرى من عيد الميلاد؟ ..."
وفجأة صرخ:
- نعم ، لدى واحدة غريبة جدًا؛ إنها قصة رائعة. رأيت معجزة! نعم سيداتى، إنها معجزة ليلة عيد الميلاد.
إنه لأمر مدهش أن تسمعننى أتحدث هكذا، فأنا لا أؤمن بأى شىء إلا نادرا. ومع هذا رأيت معجزة! لقد رأيت، وأقول، رأيت، و بعينى رأت، ما يسمى رؤيا.
هل فوجئت حقا؟ لا؛ لأنى إذا كنت لا أؤمن بمعتقداتكم، فأنا أؤمن بالإيمان وأعرف أنه ينقل الجبال. أستطيع أن استشهد بالعديد من الأمثلة ؛ لكننى سأثير غضبكم و سأعرض نفسى لتقليل تأثير قصتى.
سأعترف لكم أولاً أنه إذا لم أكن مقتنعًا بقوة وتحولت بسبب ما رأيت، فأنا على الاقل قد تأثرت بقوة، وسوف أحاول أن أخبركم بالأمر بسذاجة ، كما لو كان لدى سذاجة أوفيرنات.
كنت آنذاك طبيب ريفى أسكن فى بلدة رولفيل فى وسط نورماندى.
كان شتاء هذا العام مروعًا. منذ نهاية شهر نوفمبر، وصلت الثلوج بعد أسبوع من الصقيع. يمكنك أن ترى من بعيد السحب الكبيرة قادمة من الشمال. وبدأ نزول رقائق الثلج الأبيض.
في ليلة واحدة ، غطى الثلج السهل كله.
و كان يبدو أن المزارع المنعزلة فى ساحاتها المربعة خلف ستائرها من الأشجار الكبيرة المسحوقة من الصقيع، تغفو تحت تراكم هذا الزبد الكثيف والخفيف.
لم يكن يعبر أى صوت عبر الريف الساكن. فقط الغربان تطير فى سرب، كانت ترسم باقات طويلة من الورود فى السماء، وتبحث عن حياتها بلا فائدة، و جميعها تهبط معًا فى الحقول الداكنة وتنقب الثلج بمناقيرها الكبيرة.
لم يكن يسمع أى شىء سوى الانزلاق الغامض والمستمر لهذا الغبار المتساقط دائما.
استمر هذا ثمانية أيام كاملة، ثم توقف الانهيار الجليدى. كان لدى الأرض معطف بسمك خمسة أقدام على ظهرها.
ولمدة ثلاثة أسابيع بعد هذا، سماء صافية كبلورة زرقاء نهارًا، وفى الليل، تتناثر كلها بالنجوم التى قد يعتقد الإنسان أن الصقيع، الذى كان شديدة للغاية فى المساحة الشاسعة، يمتد و يستلقى على طبقة ثلجية مستوية، صلبة ولامعة.
السهل، الأسيجة، دردار الأسوار، كان يبدو كل شىء ميتًا، قُتل بسبب البرد. لم يكن يخرج بشر ولا حيوانات: فقط مداخن الأكواخ ذات القميص الأبيض التى كانت تكشف الحياة الخفية، من خلال خطوط الدخان الرقيقة التى كانت تتصاعد مباشرة فى الهواء المتجمد.
من وقت لآخر ، كنت تسمع صوت الأشجار تتكسر، كما لو كانت أجزاءها الخشبية قد تحطمت تحت اللحاء ؛ وأحيانًا كان ينفصل فرع كبير ويسقط، و الجليد الذى لا يقهر يحجر عصارة النبات ويكسر الألياف.
يبدو أن المساكن المنتشرة هنا وهناك بواسطة الحقول تبتعد عن بعضها البعض بمئة فرسخ. كنت تعيش كما كنت تستطيع. وحدى، كنت أحاول الذهاب لأرى أقرب عملائى، معرّضا نفسى بدون توقف أن أبقى مدفونا فى جوف الحفر.
سرعان ما أدركت أن رعبًا غامضًا كان يحوم فوق البلد. كان يعتقد أن مثل هذه الكارثة لم تكن طبيعية. قيل أن أصوات كانت تسمع فى الليل، صفارات حادة، صرخات كانت تعبر.
هذه الصرخات والصفارات كانت قد جاءت بلا شك من الطيور المهاجرة التي تسافر عند الغسق والتى كانت قد هربت بشكل جماعى باتجاه الجنوب. لكن اذهب واجعل بعض الأشخاص المصابين بالذعر يستمعون إلى العقل و المنطق. كان الخوف يملأ الأرواح وكان يمكن أن تتوقع حدثًا غير عادى.
يقع محل الحدادة الخاص بالأب فاتينال فى نهاية قرية إبيفان، على الطريق الرئيسى، غير المرئى الآن و المهجور. ولما كان الناس يفتقرون إلى الخبز ، قرر الحداد أن يذهب إلى القرية. ظل بضع ساعات يتجاذب أطراف الحديث مع البيوت الستة التى تشكل مركز البلد، وأخذ خبزه وأخبار و القليل من هذا الخوف المنتشر فى الريف.
وانطلق مرة أخرى على الطريق قبل حلول الظلام.
وفجأة، وهو يمشى بطول السياج، ظن أنه رأى بيضة على الثلج. نعم، بيضة موضوعة هنا، كلها بيضاء مثل بقية العالم. انحنى، كانت بالفعل بيضة. من اين كانت قد أتت ؟ ما الدجاجة التى تستطيع أن تخرج من حظيرة الدجاج وتأتى وترقد و تبيض فى هذا المكان؟ استغرب الحداد، لم يفهم. لكنه التقط البيضة وحملها إلى زوجته.
- أمسكى، سيدتى، ها هى بيضة وجدتها على الطريق!
أومأت المرأة برأسها:
- بيضة على الطريق؟ فى هذا ااوقت، هل أنت سكران، بالتأكيد؟
- لكن لا، السيدة، رغم أنها كانت عند سفح سياج، ولا تزال دافئة، غير متجمدة. ها هى، وضعتها على المعدة لكى لا تبرد. سوف تأكليها على العشاء.
انزلقت البيضة فى القدر حيث كان الحساء يغلى، وبدأ الحداد يحكى ما كان يقال فى أنحاء البلاد.
كانت المرأة تستمع و هى شاحبة جدا.
- بالتأكيد سمعت صفارات الليلة الماضية، رغم أنها كانت تبدو وكأنها قادمة من المدفأة.
جلسنا على المائدة، وأكلنا الحساء أولاً، ثم بينما كان الزوج ينثر الزبدة على خبزه ، أخذت الزوجة البيضة وفحصتها بعين مرتابة.
- إذا كان يوجد شىء فى هذه البيضة؟
- ماذا تريدى أن يوجد ؟
- اعرفك انا؟
- هيا، كليها، ولا تكونى سخيفة.
فتحت البيضة. كانت مثل كل البيض، وكانت طازجًا جدًا.
بدأت تأكلها بتردد، تتذوقها، تتركها، تأخذها مرة أخرى.
كان الزوج يقول : - حسنا ! ما هو طعم هذه البيض؟
لم تجب وانتهت من ابتلاعها. ثم، فجأة، ثبتت عينيها التائهة المذعورة على رجلها؛ رفعت ذراعيها، ولويتهما، واضطربت و تشنجت من الرأس إلى أخمص القدمين، وتدحرجت على الأرض، وأطلقت صرخات مخيفة.
قاومت طوال الليل فى تشنجات مخيفة، اهتزت برعشات مخيفة، تشوهت بتشنجات بشعة. اضطر الحداد، العاجز عن حملها، إلى تقييدها.
كانت تصيح بدون راحة، بصوت لا يتعب :
- لدى فى الجسد ! لدى فى الجسد!
تم الاتصال بى ( استدعائى ) فى اليوم التالى. لقد طلبت كل المهدئات المعروفة دون الحصول على أى نتائج. لقد كانت مجنونة.
وبسرعة لا تصدق، على الرغم من حاجز ارتفاع الثلوج، كان الخبر والخبر الغريب ينتقل من مزرعة إلى أخرى : "زوجة الحداد ممسوسة!" وجاء الناس من كل مكان دون أن يجرؤوا أن يدخلوا البيت. من بعيد يمكنك أن تسمع صرخاتها الخائفة الصادرة بصوت قوى لدرجة أنك لا تصدق أنها من مخلوق بشرى.
تم إبلاغ كاهن القرية. كان كاهنًا عجوزًا ساذجًا. لقد جاء راكضًا فى زى الكهنوت كما لو كان يصلى على رجل يحتضر و تلى صلوات طرد الأرواح الشريرة، و هو يمد يديه، بينما يثبت أربعة رجال المرأة التى تتلوى و تصدر رغاوى من فمها على سرير.
لكن الروح لم يتم طردها.
وجاء عيد الميلاد دون أن يتغير الطقس.
فى الصباح الباكر جاء الكاهن ليجدنى:
- قال، أريد أن تحضر هذه المرأة التعيسة إلى صلوات القداس الليلة. ربما يصنع الله معجزة لها فى نفس الساعة التى ولد فيها من امرأة.
قلت للكاهن: - أنا أوافقك تمامًا، سيدى الأب.
إذا أثر الحفل على روحها (ولا يوجد ما هو أكثر ملاءمة لتحريك مشاعرها) ، فيمكن إن يتم إنقاذها دون علاج إضافى.
همس الكاهن العجوز:
- أنت لست مؤمناً يا دكتور ولكن ساعدنى، أليس كذلك؟ هل ستكون مسئولا عن احضارها ؟
لقد وعدته بمساعدتى.
جاء المساء ثم الليل. وبدأ جرس الكنيسة يدق، مُلقيًا بصوته الحزين عبر الفضاء الكئيب، على امتداد الثلوج البيضاء المتجمدة.
جاءت كائنات سوداء ببطء، فى مجموعات، طائعة لصرخة جرس الكنيسة النحاسى. كان القمر المكتمل يضىء الأفق بأكمله بضوء زاهى شاحب ، مما يجعل الدمار الباهت للحقول أكثر وضوحًا.
أخذت أربعة رجال أقوياء وذهبت إلى محل الحدادة.
كانت السيدة المسكونة لا تزال تصرخ، مقيدة إلى أريكتها. البسوها بأناقة رغم مقاومتها اليائسة وأخذوها معهم.
كانت الكنيسة الآن مليئة بالناس، مزينة بالنور وباردة ؛ كان المرتلون ينشدون نغماتهم الرتيبة. كان الثعبان يغط فى النوم. فتى الجوقة كان يدق الجرس الصغير لتنظيم حركات المؤمنين.
حبست المرأة وحراسها فى مطبخ بيت الكاهن، وانتظرت الوقت الذى اعتقدت أنه وقت ملائم .
أخترت اللحظة التى تلت التناول. لقد استقبل كل الفلاحين، رجالاً ونساءً، إلههم ليخفف من صعوباتهم. كان يسود صمت كبير عندما كان الكاهن يكمل السر الإلهى.
بناء على طلبى، فُتح الباب وأحضر مساعدى الأربعة المرأة المجنونة.
بمجرد أن رأت الأضواء، والجموع منحنون على ركبتيهم، والجوقة متحمسة والمظلة مذهبة، قاومت بقوة لدرجة أنها كادت أن تفلت منا، وأطلقت صيحات حادة لدرجة أن ارتجافًا مرتعشًا مر فى الكنيسة؛ قامت و ارتفعت كل الرؤوس. هرب الناس.
لم يعد لديها شكل امرأة، تنقبض و تتلوى من الألم فى أيدينا، ووجهها يتلفت، وعيناها جامحتان.
تم جذبها إلى درجات الجوقة ثم تم مسكها بقوة و هى ساجدة على الأرض.
كان الكاهن قد قام. كان ينتظر. بمجرد أن رآها توقفت، أخذ بين يديه معرض القربان المقدس المحاط بأشعة ذهبية، مع وجود خبز القربان المقدس الأبيض فى المنتصف، وتقدم بضع خطوات، ورفعها من ذراعيها الممتدان فوق رأسها، مقدمًا إياها إلى النظرات الخائفة للمسكونة بالجن.
كانت لا تزال تصرخ، وعيناها مثبتتان، ممددة على هذا الشىء المشع.
وظل الكاهن ساكنًا فاعتبرناه تمثالًا.
واستمر هذا وقت طويل جدا.
كانت المرأة تبدو وكأنها مأخوذة من الخوف، مسحورة؛ كانت تحدق بثبات فى معرض القربان المقدس، ولا تزال تهتز بفعل الهزات المخيفة، لكنها وقتية، وما زالت تصرخ، ولكن بصوت أقل تمزقا.
واستمر هذا أيضا لفترة طويلة.
كان الأمر كما لو أنها لم تعد تستطيع أن تخفض عينيها اللتان قد تم تثبيتهما على خبز القربان المقدس؛ كانت تئن فقط وجسدها المتيبس يرتخى و يئن و يترهل.
وكان الجموع كلهم ساجدون وجباههم على الأرض.
وسرعان ما أنزلت المرأة الممسوسة جفنيها، ثم رفعتهما على الفور ، وكأنها عاجزة عن تحمل رؤية إلهها.
كانت قد التزمت الصمت. وفجأة لاحظت أن عينيها ظلت مغمضتين.
كانت تنام نوم السائرين أثناء النوم، منومة مغناطيسيا، آسف!
مهزومة بواسطة التأمل المستمر لمعرض القربان المقدس ذو الأشعة الذهبية، مطروحة أرضا بواسطة المسيح المنتصر.
أخذوها بعيدًا و هى خاملة، عندما كان الكاهن يصعد إلى المذبح مرة أخرى.
انزعج المشاركون فى الصلاة، و بدأوا يرددون ترنيمة شكرا لله.
ونامت زوجة الحداد أربعين ساعة متتالية، ثم استيقظت دون أن تتذكر التملك أو خلاص.
هذه، سيداتى، هى المعجزة التى رأيتها.
التزم الدكتور بونونفان الصمت، ثم أضاف بصوت معترض "لم أستطع أن أرفض أن أشهد بهذه المعجزة كتابة. "
25 ديسمبر 1882