يوسف سيدهم
كثيرة هي المجالات التي نعايشها في أيامنا هذه, والتي تنبئ بأن رياح التغيير والتطوير تهب بلا هوادة, وأنه ما من شيء يظل ثابتا علي حاله مستعصيا علي التغيير..
ومهما كان التغيير مرحبا به أو محبطا فنحن لا نملك أن نعطله أو نعرقله, كل ما في الأمر أن طبيعة الحياة تنطوي علي تعاقب الأجيال, وكل جيل قبل أن يمضي يشهد أدوات وآليات جديدة تتبلور وتزيح جانبا ما توطد عليه من أدوات وآليات..
وتتباين ردود الأفعال, فبينما ينزع الجيل الأقدم إلي مقاومة التغيير والتمسك بما توطد عليه, يكون الجيل الأحدث, أكثر ميلا للتخلي عن القديم والانحياز للجديد.
الأمثلة في هذا السياق لا حصر لها, ولكني أذكر بعضها الذي تناولته في كتابات سابقة ـ ومنها المفرح ومنها المحزن ـ فهناك اللغة العربية تودع الخط الرقعة.. وأيضا اللغة العربية تودع اللغة العربية.. ثم الصحافة الإلكترونية تزيح الصحافة المطبوعة من السوق.. والمعاملات الرقمية تحل محل البنكنوت.. هذا بالإضافة إلي الكتاب الإلكتروني.. والمنصات المعلوماتية الإلكترونية.. والتعليم أون لاين.. والامتحان أون لاين.. وكلها شئنا أم أبينا تنبئ بإعادة تشكيل واقع حياتنا, وتشهد علي عصر يتلو عصرا وجيل يخلف جيلا.
وفي هذا السياق ـ وكما يتضح من عنوان هذا المقال ـ نحن نخطو في بلدنا نحو منظومة جديدة من التجارة سبقتنا إليها عدة دول وهي التجارة الإلكترونية وهي منظومة من شأنها أن تغير تماما ما اعتاده المواطن المصري من آليات التسوق وشراء احتياجاته.. منظومة ستؤدي حتما إلي إزاحة واختفاء الشكل التقليدي للسوق التي تعتمد علي العلاقة المباشرة بين البائع والسلعة والمستهلك الذين يلتقون في المحل أو المعرض أو المول التجاري, حيث يتباري الجميع في استيفاء معايير الجذب والترغيب والإبهار لعرض وترويج السلعة واستمالة المستهلك… في ظل التجارة الإلكترونية سينعكس الحال, فبدلا من أن يذهب المستهلك إلي السلعة سوف تذهب السلعة إلي المستهلك, ومن خلال المنصات الإلكترونية لسائر أنواع السلع والمنتجات والخدمات سينخرط المستهلك في جولات تسويقية لا حدود لها يتفقد ويفحص ويقاون ويفاضل حتي إذا ما استقر علي ما يريد يتولي تحرير أمر الشراء إلكترونيا ويتم السداد بالوسائل الرقمية والكروت الذكية.. وهنا تبدأ رحلة السلعة من المخازن حتي يتم تسليمها له في منزله أو مكتبه أو المكان الذي يحدده.
ولعلكم لاحظتم أنني أقول تبدأ رحلة السلعة من المخازن.. فمع شيوع منظومة التجارة الإلكترونية واستبدال المستهلك التسوق الإلكتروني بدلا من التسوق التقليدي سوف تختفي تدريجيا المحلات والمعارض والمولات التجارية بكل ما تحمله من لافتات جذابة وديكورات وعناصر عرض وإضاءة وغيرها لتحل محلها مجمعات مخازن علي مساحات شاسعة تتراص فيها سائر أنواع السلع والمنتجات وتتحرك عبرها جيوش من العاملين بواسطة السيارات الكهربائية والرافعات الميكانيكية.. وفي بعض الدول المتقدمة, حيث العمالة البشرية مرتفعة التكلفة يتم إحلال الإنسان الآلي الروبوت محل العمالة البشرية ـ كل ذلك بمساعدة السيور الآلية للحركة وأنظمة الكمبيوتر للتحكم في الوارد والمنصرف من السلع وقوافل من سيارات النقل التي تتولي تصدير وتسليم المشتروات للمستهلكين حيث هم.
لا تستغربوا أو تعتقدوا أنني أتحدث عن شيء من الخيال العلمي… فذلك التغيير آت لا ريب فيه… شاهدناه في دول كثيرة سبقتنا إليه, ونتعجب ونحن نتابع أولادنا وأحفادنا وهم يمارسون التسوق الإلكتروني علي أجهزة الكمبيوتر واللاب توب بل والتليفون المحمول في بلادنا ويتممون مسار التسوق بجميع مراحله إلكترونيا دون أن يتحركوا من مكانهم وتصلهم مشترواتهم إلي حيث هم.. ولا تتعجبوا أيضا أن ذلك المسار يتضمن أحتمال عدم رضاء المستهلك عن السلعة التي اشتراها وكيفية إعادتها إلي البائع أو تغييرها إلكترونيا أيضا.
وفي هذا السياق دعوني أشير إلي ما نشرته وطني في عددها الماضي تحت عنوان: باستثمارات أكثر من مليار جنيه.. العملاق أمازون يعلن دخول السوق المصرية رسميا.. والجدير بالذكر أن شركة أمازون العالمية التي تأسست عام 1994 تتربع علي عرش التجارة الإلكترونية في العالم, ودخولها السوق المصرية يضع مصر في صدارة استثمارات الشركة في القارة الأفريقية, حيث افتتحت في أغسطس الماضي مركزها اللوجستي العملاق في مدينة العاشر من رمضان والذي يوفر حشدا هائلا من شتي أنواع السلع والمنتجات المتاحة للتسوق الإلكتروني بأسعار تنافسية وخيارات دفع سهلة علاوة علي توفير ما يزيد علي ثلاثة آلاف فرصة عمل من خلال أكثر من خمس عشرة محطة توزيع وتوصيل وتسليم علي مستوي الجمهورية.
طبعا وأنا أقول ذلك أعرف أن الكثيرين من جيلي ـ الذين تجاوزوا عامهم السبعين ـ سوف يتنهدون ويتحسرون علي انحسار ثم اختفاء المحلات التجارية التقليدية ورحلات التسوق عبرها وما كان يصاحبها من جولات ونزهات وعلاقات اجتماعية وتواصل إنساني غير محدود.. لكن يبدو أن قدرنا أن نتنحي جانبا صاغرين أمام التغيير حتي وإن كرهناه ونعترف أن التجارة الإلكترونية تزيح التجارة التقليدية من السوق!!