عادل نعمان
حرية العقيدة مكفولة فى الدولة المدنية، وأول سطر فى كتاب الدولة المدنية الديمقراطية الليبرالية مثلث متساوى الأضلاع والحقوق يسند بعضه بعضا، ويراقب ويرصد ويحافظ على حق المواطن أولا، لا قيام لدولة عصرية دون هذا المثلث، وليست حرية العقيدة ترفا أو عطاء أو منحة من دين الأغلبية إلى أديان الأقلية، بل هى حق يكفله «العقد الاجتماعى» بين المواطن والدولة، ويحاسب حسابا عسيرا كل من خرج عليها أو حاصرها أو منعها، أو حال بينها وبين أصحابها تحت ستار سياسى أو غطاء دينى، حتى لو كان دين الأغلبية المطلقة، أو كانت الأقلية مستضعفة، وليس هذا للأسف فى بلادى، حتى لو كانت الأمانى والأحلام يتقاسمها الحاكم والمحكوم، فتصبح دولتنا يمنعها عن الدولة المدنية مانع رئيسى لا تتحقق إلا بزواله، شهادة ميلاد بدونها لا تسجل فى سجلاتها، قل عنها فى سبيلها: تتمنى، تحاول، تجتهد، حتى لو كان الوطن يعج ويصدح ويتغنى بها ليل نهار، العبرة بالنتائج وسلوكيات الناس وتصرفات البشر ومنهج الدولة بأجهزتها ومرافقها ومؤسساتها ومنابرها ومصالحها، فعندما يكون التمييز قائما فى فرص العمل، أو يخشى صاحب الدين والمذهب والرأى الآخر من الإفصاح عن دينه ومذهبه وعقيدته ورأيه، أو يمارس شعائره فى خوف أو توجس فى أماكن نائية، أو ممنوع من الالتحاق بأقسام علمية أو رياضية بسبب دينه، يصبح كل هذا الشدو كالطبل الأجوف والنغم النشاز، بل وقل بصراحة: ضجيج بلا طحين، ويصدنا عن أبواب الدولة المدنية حتى لو تحققت رفاهية المواطن فى المعيشة.
ولكى نضمن حرية العقيدة لابد أن نبدأ من أول السطر أو «نلف ونرجع تانى» ونحمى أصحاب هذه العقائد وأصحاب الفكر والرأى من المطاردات والملاحقات، وتهم التكفير والازدراء، ونضمن للجميع المساواة أمام القانون قولا وفعلا، ولا تتحقق هذه المساواة بدولة مدنية ديمقراطية فقط، بل نزيد لها «الليبرالية» لضمان الحفاظ على حقوق الأقلية من تغول الأغلبية، وأول خطوة جادة أن نعود إلى الدستور المصرى ونصلح ما فيه من عوار، ونرفع عنه ما قرر بحسن نية أو بسوء نية، ونزيح عن كاهله ما كان من مجاملات ومحسوبيات وصفقات وملاطفات وملاينات وتوازنات بين الخصوم وأصحاب المصالح فى لجنة الدستور، فليست الدساتير الحرة قد أنشئت على هذا النحو، لجنة دستورية تضم الخصوم والتيارات المختلفة المتجانسة والمتقاطعة، وخصوصا هذا التيار الدينى الذى فرض إرادته على الدستور، فجاء متضاربا متناقضا متهالكا مخترقا مهترئا، (ممسوك من الشمال وسايب من اليمين)، لا يصلح فى فرح ولا يناسب جنازة، حكومة مدنية ودولة إسلامية وأحزاب دينية وشريعة إسلامية وقانون مدنى، تضارب وتقاطع واشتباك.
ونبدأ، وعلى الله قصد السبيل. أولا: حذف المادة الثانية من الدستور (الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع»، هذه المادة تقرر وتختم بالعشرة أن مصر دولة دينية، كيف لا؟ ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع ومعرفة بالألف واللام، والدولة شخصية اعتبارية لا دين لها، ولا تخضع لحساب أو عقاب أو جنة أو نار يوم القيامة، ويقطنها مواطنون غير مسلمين، وهذه المادة قد وضعت لنيل رضا التيار الإسلامى، فهو نص يتعارض كلية مع دولة مدنية تنشد المساواة فى الحقوق والواجبات، وحرية الرأى والاعتقاد، دون تحيز لدين، أو إقصاء أو استعلاء دين على الآخر، فهذا النص يضرب مدنية الدولة فى مقتل، فكيف للمشرع أن يشرع لدولة مدنية وهو محكوم وبنص الدستور بأحكام الشريعة الإسلامية إذا ما احتكم خصم إلى المحكمة الدستورية العليا، بهذه المادة استبعدت المحكمة شهادة مواطن مسيحى على مسلم مرتين، ويستند لها الأصوليون فى تكوين أحزاب دينية، وسبب عودة الضباط الملتحين إلى الخدمة، واستعان بها الشيخ محمد الغزالى فى شهادته على قاتل فرج فودة، ويحتج بها مشايخ التطرف إلى الدعوة لزواج الصغيرة وقتل المرتد وتارك الصلاة، ويرتكزون بها على شرعية جماعات الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ومطاردات الناس فى الشوارع، واستند لها محمد مرسى فى ندائه الشهير «لبيك سوريا» ويبقى التناقض الجوهرى بين هذه المادة والمادة 200 من الدستور (القوات المسلحة ملك للشعب، مهمتها حماية البلاد، والحفاظ على أمنها وسلامة أراضيها، وصون الدستور والديمقراطية، والحفاظ على المقومات الأساسية للدولة ومدنيتها، ومكتسبات الشعب وحقوق وحريات الأفراد) فأين مدنية الدولة وقانونها الوضعى من هذا التعارض وهذا التناقض، إذا ما كانت مبادئ الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع.
إذا كنا جادين فى إقامة دولة مدنية ديمقراطية ليبرالية، وحريصين على حرية الاعتقاد والأديان، والمساواة بين المواطنين دون تمييز فمن هنا نبدأ، وإلا فلنعلنها صراحة أننا دولة دينية، أو دولة مدنية بنكهة دينية، حسب أمزجة المشايخ وعلى هواهم، ولا مانع من أن تكون دولتنا الفتية (دولة دينية مدنية تمشى على سطر وتسيب سطر).. وللحديث بقية.
نقلا عن المصرى اليوم