فاروق عطية
في الذكرى التاسعة والستون لحرك الضباط الأشرار والتي أطلقوا عليها زورا وبهتانا ثورة، تحدث الجميع عن تلك الثورة المزعومة ومجدوا زعيمها وأحاطوه بأكاليل المجد والفخار، ونسوا أو تناسو ما نحن فيه الآن من تردي وفقر وانحدار بفضل هذه الحركة الغير مباركة وما عانته مصرنا الحبيبة من هزائم وانكسار بفضل زعيمها المغوار الذي كان يخشى الظهور منذ البداية بحجة أن له أطفال صغار فى حاجة للرعاية سوف يقاسون عند الفشل. وحتي نائبه ووريثه في السلطة محمد أنور السادات قد توجه إلى السينما ليلة 23 يوليو 1952م وافتعل معركة مع أحد رواد السينما وأصر على عمل محضر فى قسم البوليس ليكون دليل ابتعاده عند الفشل. والوحيد الذي لم ترهبه تلك اللحظة هو محمد نجيب الذي لم يذكره أحد، فقد كان شجاعا لم يرهبه الموقف وكان مستعدا لتحمل كل العواقب بمفرده، ونال جزاء سنمار من باقي الضباط الأشرار وقضي بقية حياته حبيس جدران قصر زينب الوكيل بالمرج، واعتقد أن ذلك كان عقابا ربانيا يستحقه لخيانتة مليكه وأُمته والانجراف خلف شلة من الضباط المارقين.
من سخرية القدر أن اللجنة القيادية للحركة بقيادة زعيمها جمال عبد الناصر قد اجتمعت، وقررت أن تكون ليلة 22-23 يوليو 1952م هي ليلة التحرك، وأعطيت الخطة اسمًا كوديًّا "نصر"، وتحددت ساعة الصفر في الثانية عشرة مساءً، إلا أن جمال عبد الناصر عاد وعدل هذ الموعد إلى الواحدة صباحًا، وأبلغ جميع ضباط الحركة عدا أحد أفرادها البكباشي يوسف صديق؛ لكون معسكره في الهايكستب البعيد عن مدى تحركه ذلك اليوم، فآثر انتظاره بالطريق العام ليقوم برده إلى الثكنات، وكان لهذا الخطأ البسيط على العكس وللأسف أعظم الأثر في نجاح الانقلاب. فما إن خرجت القوة من معسكر الهايكستب حتى فوجئت باللواء عبد الرحمن مكي قائد الفرقة، فاعتقلته القوة بأومر من يوسف صديق وتم اقتياده بسيارته بصحبة القوة، وعند الاقتراب من مصر الجديدة صادفت القوة أيضا الأميرالاي عبد الرءوف عابدين قائد ثاني الفرقة، فأمر يوسف الصديق أيضًا باعتقاله وأركبه إلى جانب اللواء المعتقل من قبل بنفس سيارة اللواء، وساروا مع القوة والمدافع موجهة ٌإليهما من العربات الأخرى.
ولم تقف الاعتقالات عند هذا الحد، فقد فوجئ يوسف صديق ببعض جنوده يلتفون حول رجلين تبين له أنهما جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر الذين كانا بملابس مدنية. ولما استفسر يوسف عن سر وجودهما، حدث جدل بين جمال عبد الناصر ويوسف صديق، حيث رأى جمال خطورة تحرك يوسف قبل الموعد المحدد على أمن ضباط الحركة وعلى إمكانية نجاحها، ورأى رجوعه إلى الثكنات، لكن يوسف صرح له أنه قد فات الأوان ولم يعد يستطيع العودة مرة أخري بعد أن قامت قواته بالقبض على قائده اللواء عبد الرحمن مكي ثم الأميرالاي عبد الرءوف عابدين قائده الثاني.
لم يكن أحد يعلم على وجه اليقين ما يتم فـي رئاسة الجيش، حيث كان خبر التمرد قد تسرب إلى الملك فاروق الذي أبلغ الأمر للقيادة لاتخاذ إجراء مضاد على وجه السرعة، وكانت قيادة الجيش - التابع للملك - مجتمعة في ساعته وتاريخه؛ تمهيدًا لسحق التمرد أو الانقلاب بقيادة الفريق حسين فريد قائد الجيش، وقد حسم يوسف صديق الجدل بينه وبين جمال عبدالناصر حينما أصر على مواصلة طريقه لاحتلال القيادة.
عقب نجاح الحركة وتسميتها بالثورة دعا يوسف صديق مجلس القيادة إلى عودة الحياة النيابية، وخاض مناقشات عنيفة من أجل الديمقراطية داخل مجلس القيادة. يقول يوسف صديق عن تلك الخلافات في مذكراته: "كان طبيعيًّا أن أكون عضوًا في مجلس قيادة الثورة، وبقيت كذلك حتى أعلنت الثورة أنها ستجري الانتخابات في فبراير 1953م، غير أن مجلس الثورة بدأ بعد ذلك يتجاهل هذه الأهداف، وتهكم عليّ واحد من أعضاء مجلس الثورة، وكان جمال عبدالناصر قد أبلغهم أنني شيوعي، فقال لي: "أنت عامل لي فيها "يوسف ستالين؟! ولم أجد أمامي سوى دواية الحبر، فقذفها في وجهه. واستمر الصدام الحاد، فحاولت أكثر من مرة أن أترك المجلس وأعود للجيش فلم يسمح لي بذلك، حتى ثار فريق من الضباط الأحرار يتزعمه اليوزباشي محسن عبد الخالق على مجلس قيادة الثورة، وقام المجلس باعتقال هؤلاء الثائرين ومحاكمتهم، فاتصلت بالبكباشي جمال عبد الناصر وأخبرته أنني لا يمكنني أن أبقى عضوًا في مجلس الثورة، وطلبت منه أن يعتبرني مستقيلًا، فاستدعاني للقاهرة، ونصحني بالسفر للعلاج في سويسرا في مارس 1953م".
عندما وقعت أزمة فبراير ومارس عام 1954م، طالب يوسف صديق في مقالاته ورسائله إلي محمد نجيب بضرورة دعوة البرلمان المنحل ليمارس حقوقه الشرعية، وتأليف وزارة ائتلافية من قِبَل التيارات السياسية المختلفة من الوفد والإخوان المسلمين والاشتراكيين والشيوعيين، وعلى أثر ذلك اعتقل هو وأسرته، وأودع في السجن الحربي في أبريل 1954م، كما سجنت زوجته"علية"، ثم أفرج عنه في مايو 1955م، وحددت إقامته بقريته زاوية المصلوب مركز الواسطي شمال بني سويف يقية عمره إلى أن توفي في 31 مارس 1975م.
تنازل جلالة الملك فاروق عن عرشه لإبنه الأمير أحمد فؤاد رغم أنه كان بإمكان جلالتة الاتصال تليفونيا بقيادة الجيش الإنجليزي المرابط بالقنال أن يقضي علي التمرد العسكري في ساعات، ولكنه كان وفيا لشعبه محبا له، فقد اجتمع مع قيادات القصر وأعلن موافقته على الوثيقة العسكرية بالتنازب حقنا لدماء المصريين، وفى 26 يوليو سنة 1952، غادر الملك فاروق مصر مستقلا اليخت الملكى المحروسة متجها إلى منفاه.
بالقطع لم يخطر علي بالي لحظة من اللحظات أن جلالة الملك فاروق بكل حبه ووطنيته المصرية، يمكن أن يعامل جيشه بمثل ما عامل أردوغان جيشه يوم الثلاثاء 12 يوليو 2016م حين قامت القوات المسلحة التركية بمحاولة انقلاب فاشلة ضده فعاملها أردوغان بكل هذه الإٌهانات من قتل وذبح وتنكيل، ولكني أتخيل أنه بالقطع لو كانت الحركة قد فشلت كان سيحاكم المتآمرين محاكمات عادلة. وما يؤيد ظني، ما حدث من جلالته حين طُلب منه التنازل عن العرش لولي عهده الأمير أحمد فؤاد، أنه كتب في وثيقة التنازل “لما كنا نتطلب الخير دائما لامتنا، ونبتغى سعادتها ورقيها، ولما كنا نرغب رغبة أكيدة فى تجنيب البلاد المصاعب التى تواجهها فى هذه الظروف الدقيقة، ونزولا على إرادة الشعب قررنا النزول عن العرش لولدنا الأمير أحمد فؤاد وأصدرنا أمرنا بذلك إلى حضرة صاحب المقام الرفيع على ماهر باشا رئيس مجلس الوزراء للعمل بمقتضاه”.
هنا راودني سؤال: ماذا لو استعان الملك بالانجليز وأخمد التمرد وفشلت حركة الضباط ؟ سؤال لم يتطرق إليه أحد، وبالطبع لا يمكن إيقاف حركة التاريخ أو إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، ولكن من الناحية الافتراضية النظرية البحتة يمكننا إستقراء الأحداث من الماضى قبيل قيام حركة الجيش لتخيل سيناريو ما كان قد يحدث لو لم تقم أو لو فشلت هذه الحركة، وذلك باستقراء أحداث الماضي ومقارنة ما حدث بالفعل لدول صديقة كانت في مثل وضعنا قبيل 23 يوليو'>انقلاب 23 يوليو، وما آل إليه وضعها الآن يمكن الإجابة علي هذا السؤال:
1- حين تأزمت الأوضاع بعد إلغاء حزب الوفد لاتفاقية 1936م، حيث توهجت الحركة الوطنية التى لم تكن ضد الانجليز وحدهم، إنما أيضا ضد الملك ومؤيديه، واشتعلت منطقة القنال، ووقعت مذبحة الإسماعيلية قى 25 يباير 1952م، وفى اليوم التالى احرق الأخوان المسلمين أو تنظيم الضباط الأشرار أو كليهما معا القاهرة، وازداد الموقف سوءا بإقالة الوفد فى 27 يناير 1952م، وتعاقبت على مصر أربعة وزارات فى فترة وجيزة، آخرها وزارة نجيب الهلالى باشا صبيحة قيام الحركة. كانت هناك إرهاصات لتصحيح الأوضاع والسير قدما فى طريق ايجاد مخرج للأزمة قبيل التمرد، فقد انشغلت القوى السياسية الجادة فى مصر إهتماما بدعوة النبيل عباس حلمى لجماهير الشعب المصرى للاتفاق على الجلاء ووحدة وادي النيل، داعيا جميع الأحزاب للاتحاد فى كتلة واحدة، وكانت هذه الصيغة كفيلة بحل الأزمة الداخلية حلا طبيعيا، وهى صيغة تعبئة قومية كالتى حدثت عامى 1919م، 1935م. وقد تمخضت اتصالاته واستشاراته على وضع خطوط رئيسية لمشروع ميثاق وطنى أهم بنوده إلغاء الأحكام العرفية، واجتماع البرلمان فى الموعد الدستورى، ومطالبة بريطانيا الإعتراف بمطالب مصر فى الجلاء التام والوحدة المصرية السودانية.
2- يمكننا بالخيال البحت المقارنة بين حالنا وحالة الهند التى كانت لها حركة وطنية تناضل من أجل الاستقلال عن بريطانيا العظمى بقيادة حزب المؤتمر، برمزه الروحى المهاتما غاندى، وعقله المدبر جواهر لال نهرو. كانت الهند تقتدى وتتبع خطوات مصر فى حركتها الوطنية بداية من 1919م بقيادة زعيم الأمة سعد زغلول باشا الذى كانت تربطه بنهرو وغاندى مراسلات وصداقة. وقد وفقت مصر بفضل الترابط بين الأقباط المسلمين والأقباط المسيحيين أن تحصل على نوع من الاستقلال فى تصريح 28 فبراير 1922م ، وتمت صياغة الدستور عام 1923م، وأجريت انتخابات ديموقراطية نزيهة وكان التطلع لنضج هذه التجربة أمل كل مصرى. وتكونت أحزاب مصرية حقيقية نابعة من الواقع والظروف المصرية الوطنية. فلو استمرت مصر فى طريقها الوطنى دون قيام أو نجاح حركة الضباط 1952م، لكانت مصر الآن فى حالة مشابهة لحد كبير وربما أفضل من حالة الهند الآن، وما كنا وصلنا لما نحن فيه الآن من ترد وتخلّف وانهيار.
3- أدرك الانجليز حاجة مصر للإستقلال بعد أن نضجت مصر ثقافيا واقتصاديا، وبعد أن اشتدت حدة المقاومة ضد الاحتلال وامتناع كل الموردين المصريين عن توريد المواد الغذائية للقاعدة البريطانية بالقنال، وكانت العقبة الكأداء لتحقيق الاستقلال هى إصرار الحركة الوطنية الواعية على أن يكون الاستقلال مشمولا بالوحدة المصرية السودانية المصيرية، الأمر الذى عرقل توقيع اتفاق صدقى- بيفن عام 1946م. ويمكننا بقليل من الخيال أن نتصور لو استمرت الحركة الوطنية فى مطالبها ورضوخ المستعمر دون قيام حركة الضباط، لكان الاتفاق شاملا الجلاء ووحدة وادى النيل، دون الحاجة لوحدة رومانسية تمت بين مصر وسوريا دون دراسة، بدأت 1958م وانتهت بانفصال مأساوى 1961م عطل مسار القومية العربية المنشودة، وأدى إلى تعقيدات ومسارات غير منطقية تم من خلالها اصطياد مصر والعرب فى هزيمة 5 يونيو 1967م، وما زلنا نعانى من آثارها حتى اليوم. إن الوحدة بين شطرى وادى النيل كانت ستؤمّن زيادة الموارد الطبيعية واستثمارها لصالح الشعب الواحد مع تيسير هجرة الأيدى العاملة، أيضا كانت ستمكن من تحاشى الصراع الحادث بين شمال السودان وجنوبه والتي أدت لانفصالهما، وكانت رياح الديموقراطية السمحة ستهب من جنوب الوادى إلى شماله. وسوف يؤدى لتشكيل نواة وبزوغ كيان أو عامود فقرى جغرافى حول مجرى نهر النيل مكونا كيانا مصريا أفريقيا يتسع مع الزمن مكونا صرحا قويا لدولة شمال أفريقية تشمل مصر بشطريها مع ليبيا والصومال وغيرها، وتُجنبنا ما نحن فيه الآن من توتر خوفا من الجفاف وندرة موارد الماء لونجحت أثيوبيا في الانتهاء من سد النهضة. ولو شطح بنا الخيال أكثر لتصورنا هذه الوحدة الشمال أفريقية نواة لوحدة كل الدول الناطقة بالعربية من المحيط ألى الخليج. ولكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه ..!!