في مثل هذا اليوم 28 يوليو 1956م..
في عام 1955 وصل دخل قناة السويس إلى 35 مليون جنيه (100 مليون دولار وقتها) بلغ نصيب مصر منها مليون جنيه فقط، وذلك بعدما خسرت مصر حصتها في القناة بسبب مرورها بأزمة مالية في عام 1875 اضطر معها الخديوي إسماعيل إلى بيع حصة مصر في أسهم القناة لبريطانيا. وكان ميعاد انتهاء عقد الشركة الفرنسية صاحبة امتياز التحكم في القناة يحين في عام 1968 لتعود بعد ذلك القناة إلى ملكية مصر. عقب توقيع اتفاقية الجلاء تخوفت الشركة الفرنسية من التأميم كما حدث بشأن النفط في إيران، فتكون ما يعرف بجماعة السويس للدفاع عن الشركة، واستبعدت الشركة أن تعود القناة إلى مصر، وحاولت مد امتياز القناة عشرين سنة أخرى أو تأسيس شركة جديدة تحصل على امتياز جديد يكون لمصر فيها نصيب، فيما أهملت الشركة تحسينات القناة التي تحتاج بطبيعة الأمر إلى تمويل كبير بهدف الضغط على مصر لتحقيق مطالبها. مثلت القناة أهمية دولية كبرى وخاصة بالنسبة لبريطانيا التي تعد أكثر الدول انتفاعاً بالقناة، حيث تنقل من خلالها النفط وتمر سفنها التجارية إلى الشرق الأوسط التي تمثل ربع تجارتها، بخلاف أهميتها كطريق لدول الكومنولث، وتسهيل مرور قواتها العسكرية، وكونها صاحبة أكبر حصة من الأسهم في القناة بإجمالي 44%، من أجل ذلك قلقت لندن بشأن وضع القناة بعد انتهاء امتيازها، وأعلنت أهمية اتخاذ الترتيبات لضمان مستقبلها بالنقاش مع الحكومة المصرية، في حين اعتبر مجلس العموم البريطاني القناة ممراً دولياً وطالب بإبعاد سيطرة عبد الناصر عنها.
على جانبٍ آخرَ ركزت مصر تصريحاتها على صعيدين وأكثر من مستوى، الأول أنها سوف تحصل على النقد اللازم لتمويل السد من تأميم القناة إذا ماعدلت واشنطن ولندن عن التمويل، والثاني بأن القناة جزء لايتجزأ من مصر وأن عودة القناة لمصر جزء متمم لإسدال الستار على النفوذ الأجنبي خاصة بعد توقيع اتفاقية الجلاء، في حين لم يكشف عبد الناصر وقتاً محدداً للتأميم، وخطط بالاتفاق مع محمود يونس على التنفيذ في سرية تامة.
توقع عبد الناصر خطورة قراره وأدرك إمكانية وقوع عدوان على مصر لكنه وضع في اعتباره أن السوفييت سيكونون بجواره طالما يطيح بمصالح الغرب، ووضحت له اتصالاته في قبرص رؤية نسبية بأن الخطورة تمثل 90% عقب أسبوعين من إعلان التأميم، ثم يكون العد تنازلي لانخفاض درجة الخطورة فتصل إلى 60% في سبتمبر، ثم 40% في النصف الأول من أكتوبر، و20% بعد ذلك. كان تقدير عبد الناصر أن احتمال التدخل العسكري سيكون محققاً بنسبة 80% خلال الأسبوع التالي للتأميم، ثم تتناقص احتمالات الخطورة إلى 40% في الأسبوع الثاني والثالث من أغسطس، وخلال سبتمبر وحتى نهاية أكتوبر يكون بنسبة 20%، ثم يبدأ بالتلاشي بعد ذلك. كذلك رأى عبد الناصر أن احتمال اشتراك الولايات المتحدة في عمل عسكري مستبعد لانشغالها بالانتخابات كما أنها تفضل الضغط الاقتصادي، ولاتريد وضع نفسها في وضع محرج أمام أطراف عربية صديقة في المنقطة أبرزها السعودية، أما فرنسا فهي لاتستطيع التدخل بمفردها لانشغالها بقمع ثورة الجزائر، وبالنسبة لإسرائيل فقد تفكر في التدخل العسكري، ولكن مسألة التأميم بعيدة عما يمكن أن تتخذه ذريعة لهجومها، وأن من مصلحتها انتظار ما سيقوم به الغرب ضد مصر أولاً، واحتمال استخدامها من قبل بريطانيا وفرنسا كذريعةٍ للاستيلاء على القناة بالقوة ضعيف، لأن مثل هذا التعاون سيلقي بظلال سيئة على علاقة بريطانيا بالدول العربية في الوقت الذي كانت تطمح فيه إلى بناء علاقات طيبة مع تلك الدول. وأخيراً فإن بريطانيا هي الطرف الأكثر شراسة الذي يُخشى من تدخله فعلاً، ولكن في نفس الوقت فإن القوات البريطانية متناثرة، والتعبئة لإعداد حملة عسكرية يتطلب على الأقل شهرين، وفيما يتعلق بالتعاون العسكري البريطاني الفرنسي فهو قائم حتى مع اختلاف سياسة البلدين.
ومن ميدان المنشية بالإسكندرية يوم 26 يوليو 1956 أعلن عبد الناصر:
«"قرار من رئيس الجمهورية بتأميم الشركة العالمية لقناة السويس البحرية".
باسم الأمة.
رئيس الجمهورية.
مادة 1: تؤمم الشركة العالمية لقناة السويس البحرية شركة مساهمة مصرية. وينتقل إلى الدولة جميع ما لها من أموال وحقوق وما عليها من التزامات وتُحل جميع الهيئات واللجان القائمة حالياً على إدارتها.».
شكلت في بريطانيا لجنة من الوزراء تتولى توجيه دفة سياسة القوة برئاسة رئيس الوزراء عرفت باسم "لجنة مصر"، والتي ارتأت أن أي عمل عسكري ضد مصر كفيل بإسقاط عبد الناصر، وتطرقت لاقتراح رئيس الوزراء العراقي نوري السعيد بتمكين الأمير عبد المنعم ابن الخديوي عباس حلمي الثاني من الحكم كبديل لعبد الناصر، وأن يكون رئيس وزرائه أحمد مرتضى المرغني "وزير الداخلية في أواخر العهد الملكي". في صخب تلك التحركات فرضت بريطانيا عقوباتٍ اقتصاديةً على مصر، فجمدت أرصدتها الإسترلينية في لندن وعليه قُيدت مصر لأن معظم تجارتها تجري بالصرف بالإسترليني باستثناء جانب صغير يستخدم فيه الدولار وجزء آخر بالمقايضة مع الكتلة الشيوعية، كذلك منعت بريطانيا شحن البضائع إلى مصر، وفرضت الرقابة على جميع حسابات البنوك المصرية لديها، ومنعت تسليم ذهب شركة قناة السويس وودائعها إلى مصر إلا بترخيص من وزارة المالية البريطانية، وامتنعت بريطانيا وفرنسا عن دفع رسوم عبور القناة وأودعتاها لدى مصارفهما، وحذت الولايات المتحدة حذو بريطانيا وجمدت أرصدة مصر الدولارية لديها، وحظرت بريطانيا تصدير الأسلحة والمعدات إلى مصر رسمياً.
قررتِ الدول الثلاث (الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا) تعبئة الرأي العام الدولي ضد مصر، وفي 2 أغسطس 1956 اجتمع وزراء خارجية الدول الثلاث وأصدروا بياناً استعرض الطابع الدولي لشركة قناة السويس وأحكام اتفاقية القسطنطينية التي ضمنت حرية الملاحة في القناة دون تمييز وأن مصلحة العالم في بقاء الصفة الدولية لها بصرف النظر عن انقضاء مدة الامتياز، وأن الخطوات التي اتخذتها الحكومة المصرية تهدد حرية الملاحة وأمن القناة مما يجعل من الضروري إنشاء نظام دولي لإدارة القناة وضرورة إقامة مؤتمر في 16 أغسطس 1956 تُدعى إليه الدول المنتفعة من القناة، وهي الدول التي وقعت على معاهدة القسطنطينية أو التي حلت محلها في الحقوق والالتزامات. تولت بريطانيا تنظيم المؤتمر في لندن فدعت الدول التسع الموقعة على اتفاقية القسطنطينية وهي (المملكة المتحدة، ألمانيا (ممثلةً للإمبراطورية الألمانية)، النمسا والمجر (ممثلتا الإمبراطورية النمساوية المجرية)، إسبانيا، فرنسا، إيطاليا، هولندا، الاتحاد السوفييتي (ممثلاً للإمبراطورية الروسية)، تركيا (ممثلة للدولة العثمانية)) كما وجهت الدعوة لستة عشر دولة أخرى معنية باستخدام الملاحة في القناة وهي (أستراليا، نيوزلندا، إندونيسيا، اليابان، سيلان، الهند، باكستان، إيران، اليونان، السويد، النرويج، الدانمارك، البرتغال، أثيوبيا، الولايات المتحدة) بالإضافة إلى مصر. وكان جلياً أن اختيار تلك الدول جاء لأنها محابية للغرب، ولم تدع الدول العربية رغم أنها المورد الأساسي للنفط، وكذلك دول الكتلة الشرقية لموقفها المتعاطف مع مصر. ورفضت الحكومة اليونانية الاشتراك في المؤتمر، ووافقت الهند على الاشتراك بشرط ألا يمس اشتراكها الحقوق والسيادة المصرية، ولايتخذ المؤتمر أي قرار نهائي إلا بموافقة مصر، ووافقت الحكومة السوفييتية مع المطالبة بتوجيه الدعوة إلى مجموعة أخرى من الدول منها الدول العربية والدول الاشتراكية، أما الحكومة المصرية فرفضتِ الاشتراك في مؤتمر يبحث السيطرة على جزء من أراضيها ودعي له أربع وعشرون دولة من أصل خمسة وأربعين دولة لها حق الحضور -وهي الدول التي تمر سفنها بالقناة-. انعقد المؤتمر فيما بين 16 و23 أغسطس 1956، وانتهى إلى تأييد المشروع الأمريكي المقدم بأغلبية الأصوات، والذي تضمن اقتراحاً بإقامة مجلس دولي يقوم على إدارة القناة، وعارضت هذا المشروع كل من الهند والاتحاد السوفييتي وإندونيسيا وسيلان، وجرى عرض المشروع على مصر عبر لجنة خماسية برئاسة "روبرت منزيس" ورفضه عبد الناصر.
إعاقة الملاحة:
حاولت فرنسا وبريطانيا الرد على عبد الناصر بالشروع في تنفيذ "العملية تكديس" (بالإنجليزية: Operation Pile-Up) التي تهدف إلى إعاقة حركة الملاحة بالقناة، عن طريق إرسال سفن للمرور بالقناة فوق طاقتها المرورية، وفي نفس الوقت سحب المرشدين الأجانب لإثبات فشل مصر في إدارة القناة والحصول على فرصة للتدخل المسلح، ولكن تمكن محمود يونس -مهندس عملية التأميم- من إدارة حركة الملاحة بكفاءة واقتدار، بمساعدة المرشدين المصريين واليونانيين وضباط البحرية المصرية. كذلك شرعت بريطانيا وفرنسا في تنفيذ "العملية قافلة" (بالإنجليزية: Operation Convoy) والتي قامت على أساس وضع سفن حربية عند طرفي القناة وتنظيم قوافل للمرور دون دفع رسوم، فإذا أعاقت مصر مرورها تقوم السفن الحربية بقيادة القافلة والمرور بالقوة، لكن السلطات المصرية رفضت تعطيل الملاحة وسمحت للقوافل بالمرور دون دفع رسوم، على أن تحصل الرسوم لاحقاً عبر إرسال الإيصالات إلى الشركات مالكة السفن.
لمنع وصول رسوم القناة إلى مصر وجهت بريطانيا الدعوة إلى الدول الثماني عشر -دول مؤتمر لندن- لإنشاء هيئة جديدة باسم هيئة المنتفعين تكون بمثابة شركة جديدة للقناة تعمل بالوكالة عن المنتفعين وتمارس عنهم الحقوق التي كفلتها لهم معاهدة القسطنطينية، وفي حالة إصرار مصر على الرفض، تُقيم الهيئة على ظهر سفينتين بمدخل ومخرج القناة (بورسعيد والسويس)، وتحصل رسوم المرور وتدفع إلى مصر حصتها، وفي حالة رفض مصر مرور السفن تكون في حل من استخدام القوة ضدها. وانعقد مؤتمران في لندن في 19 و22 سبتمبر لوضع اللمسات الأخيرة لتلك الهيئة، واتخذت من لندن مقراً لها، وعين قنصل الدانمارك في نيويورك مديراً لها، وأنيط بالهيئة الوصول إلى حل نهائي للمشكلة القائمة، ومساعدة الأعضاء على ممارسة حقوقهم، وضمان الملاحة الآمنة، وأن تتسلم وتحتفظ وتنفق الإيرادات المتحصلة من رسوم القناة مع عدم المساس بالحقوق القائمة انتظاراً للتسوية النهائية، ولكن لم تمارس الهيئة مهامها في ظل المعارضة السوفييتية، واعتراض الولايات المتحدة على دفع الرسوم لها واستمرار الخلاف بين أعضائها.
اللجوء إلى مجلس الأمن:
في 23 سبتمبر سلمت كل من بريطانيا وفرنسا خطاباً رسمياً إلى رئيس مجلس الأمن يتضمن الموقف الناشئ عن العمل الذي قامت به الحكومة المصرية، وفي 24 سبتمبر طلبت مصر بحث شكواها تجاه ما تقوم به بريطانيا وفرنسا ضدها من أعمال. وأصدر مجلس الأمن قراره في 13 أكتوبر 1956 والذي كان حول مشروع بريطاني فرنسي تكون من قسمين، تضمن القسم الأول مبادئ ستة تكون أساساً للمفاوضات التي تجرى مستقبلاً لتسوية الأزمة وهي (تكون حرية العبور مكفولة والقناة مفتوحة للجميع دون أي تمييز، أن تحترم سيادة مصر، تعزل القناة عن السياسة، تحدد الرسوم بين مصر ومستخدمي القناة بطريقة يتفق عليها، تخصص نسبة عادلة من الرسوم لإنماء القناة والنهوض بها وتشغيلها، عند حدوث أي نزاع بين شركة قناة السويس والحكومة المصرية فيما يختص بالشئون المعلقة يحل هذا النزاع بطريقة التحكيم) وحاز على موافقة بإجماع الأصوات الأحد عشر، أما القسم الثاني فتضمن الاعتراف بهيئة المنتفعين، وأن تبقى القناة مفتوحة أمام جميع السفن مهما كانت جنسيتها -في إشارة إلى السفن الإسرائيلية-، إلا أنه لم يفز حين الاقتراع عليه إلا بتسعة أصوات واعتراض صوتين هما الاتحاد السوفييتي ويوغوسلافيا والأولى لها حق الفيتو، وعليه أسقط القسم الثاني من مشروع القرار، وأمام فشل السياسة الأنجلو-فرنسية في تحقيق مآربها عن طريق الضغط الدبلوماسي، قررت سلوك طريق القوة العسكرية المدبر له مسبقاً.!!