الأب أثناسيوس حنين
خطفتنى باريس الأيام الماضية بعد غياب عنها طال ’ ليس لزيارة الجامعات العريقة التي تعلمت فيها بين السوربون والجامعة الكاثوليكية وجامعة ليموج ’ ولا للتجوال على المكتبات ولا للاطلاع على أحدث ما أنتجت القريحة الفرنسية من ثقافة وفكر ’ ولا للتمشى في شارع الشانزليزيه العريق. الحقيقة أننى القيت نظرة سريعة على صحيفتى المفضلة (اللوموند ) الصادرة يوم السبت 24 يولية 2021 . خطفتنى عاصمة النور لتقديم العزاء والشركة في رحيل أم فاضلة وسيدة كريمة من الفقراء بالروح والاغنياء بالجسد ومن أعيان باريس القبطية . نعم فقراء بالروح ولكنهم أغنوا كثيرين من خيرات السماء التي أنهمرت عليهم بغنى. نعم رأيت باريس القبطية .
هذه السيدة مع زوجها رجل الاعمال السامرى الصالح والوديع الأستاذ وديع صالح ’ ساهما في نشأة باريس القبطية بما قاما به من أعمال كبيرة في استقبال القادمين من مصر والمساعدة في استقرارهم بما له من حظوة لدى السلطات الفرنسية حتى أنه وهو وأم شنودة زوجته قاما بتأسيس فندقا لاستقبال من لا ملجأ له واطعام من لا طعام له .كان رحيل أم شنودة سريعا بل ’ أقول ’ اختطافا .جمعت حولها أقباط حى (سان طوان ) وضواحيه . شباب واعد وصنايعية مهرة مع زوجاتهم واولادهم من الجيل الثانى والثالث .حضرنا صلاة الجنازة وهى أول مرة أدخل فيها كنيسة قبطية منذ احدى عشر سنة ! . وقفت مع عم وديع على باب الكنيسة الكاثوليكية المؤجرة والتي حولها شباب وصبايا الاقباط الى كنيسة مصرية .جموع خفيرة ’ حضر نيافة الانبا مارك أسقف فرنسا للأقباط الأرثوذكس .
قدمنى له عم وديع (قدس ابونا اثناسيوس من اليونان ) رحب بى بحرارة كبيرة فرحتنى وسط الأحزان . بدأت الصلاة وقفت الى جانب عم وديع في اول صف بين العلمانيين !.
تمت الصلاة وقام الاسقف لالقاء كلمة تعزية . وهنا اقترب منى ابونا يوحنا رمسيس وهو أخ روحى قديم وهمس في اذنى (تحب تقول كلمة ) أجبت على الفور (نعم !) قمت وانحنيت امام الانبا مارك وطلبت منه رشم الصليب ثم تكلمت بما أعطانى إياه الروح بنيانا للكنيسة والمؤمنين وعزاء لأسرة الراقدة الان في مراحم الاب السماوى . هنا أدركت ان موت الصالحين يأتي بالحياة وأن كل الأشياء تعمل للخير للذين يحبون الرب . اذا أنها لأول مرة أتكلم أمام شعب قبطى كبير وفى كنيسة قبطية كبيرة وفى حضور اسقف بمكانة ومقام اسقف فرنسا القبطى الأرثوذكسى الانبا مارك .بعد أنتهاء الكلمة ذهبت لتحية سيدنا وشكره فقال لى ما أثلج قلبى وعزانى وأنقل كلماته ( تقدر تيجى هنا في أي وقت ومن غير عزومة ) شكرته ودعوته لزيارة اليونان لزيارة جبل أثوس ’كما تمنينا سويا أن نصلى معا على المذبح الواحد حينما تزول العقبات وتتحد الكنيستين البيزنطية والقبطية .
لقد رقدت أم شنودة "تيتة" اولادى حينما كانوا يدرسون في باريس . ولكنها أقامت برقادها باريس القبطية وأقامتنى معها في قلب الكنيسة القبطية حتى لو كانت هذه القيامة كلمة بسيطة بلا شركة طقسية كاملة ! .حضور قبطى رائع وحيوى ومبدع وفعال. يتكلمون الفرنسية بطلاقة ويندمجون بهدوء وسلام في المجتمع الفرنسي والقبطى يهاجر بتراثه وكنيسته وقديسيه ولكنه لا يتغرب عن واقع المجتمع الجديد. الجيل الثانى والثالث يدرس في السوربون والبوليتكنيك وكبريات الجامعات والليسيهات والكوليجات الفرنسية.
هذا الشباب سوف يصنع معجزة دمج باريس القبطية بباريس الفرنسية بلا خوف من الذوبان وبصلح كامل مع الثقافة والحضارة الفرنسية التي يعود لها الفضل في اكتشاف الهوية المصرية والشخصية القبطية .
باريس القبطية ليست "جيتو" منعزل بل "خميرة" متغلغلة سوف تخمر عجين فرنسا كله . كانت مسيرة الجنازة حاشدة وشكلت عظة لكل من رأها من الفرنسيين بأن المسيحيين المصريين يؤمنون بالقيامة ولا يخجلون من دفن موتاهم في مواكب وبترانيم وصلوات فصحية و قيامية في قلب باريس العلمانية. ليكن ذكرك أبديا يا أم شنودة ’ أيها السيدة العظيمة في حياتها وفى رقادها .