يوسف سيدهم
منذ عام 2015 حين أعلن الرئيس عبدالفتاح السيسي في مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادي عن مشروع تأسيس عاصمة إدارية جديدة لمصر, وعبرالسنوات الست الماضية يتابع المصريون بكثير من الإعجاب والانبهار والفخر الإنجازات العظيمة التي تمت والتي تجري في المشروع الذي يقع علي بعد نحو ستين كيلومترا من القاهرة في اتجاه السويس ويشغل مساحة 170ألف فدان, ويهدف المشروع إلي خفض الكثافة السكانية في القاهرة حيث يستوعب عند اكتمال مراحله الثلاث 6.5مليون نسمة ويسهم في توفير مليوني فرصة عمل.
مخطط المشروع وتوزيع عناصره واستيفاء سائر احتياجاته من المباني ذات الطابع الرسمي والحكومي علاوة علي قطاعات الاستثمار والإسكان والخدمات والمساحات المفتوحة بالإضافة إلي شبكات الطرق والمرافق والبنية التحتية… كل ذلك يتبع أحدث الوسائل الإنشائية والتكنولوجية وأكثرها جذبا من ناحية المعالجة المعمارية وتنسيق وتجميل المواقع… وبينما العمل الدؤوب يتم علي قدم وساق واللمسات الأخيرة توضع علي ما تم إنهاؤه من منشآت ومبان تابعة لسائر القطاعات تتردد التصريحات الرسمية عن بدء فترة التشغيل التجريبي للمرحلة الأولي من المباني الحكومية أول أغسطس المقبل ويتبع ذلك بشكل تدريجي درجات متزايدة من الاستقرار السكاني خلال العام القادم 2022 بالتناسب مع اكتمال الإنشاءات والخدمات وأعمال البنية التحتية في الأحياء السكنية.
ما من شك أن الإنجازات التي تحققت في مشروع العاصمة الإدارية الجديدة من حيث طبيعتها وتنوعها ومستويات وسرعة تنفيذها هي رائعة بكل المقاييس وتدعو للفخر وتليق باسم مصر وحضارتها ومكانتها العالمية المرموقة التي استعادتها خلال السبع سنوات الماضية… لكن هناك أسئلة مهمة معلقة تبحث عن إجابات, وهي الخاصة بالتركيبة السكانية للعاصمة الإدارية الجديدة وهل ستكون مستقرة تعيش وتعمل فيها أم ستكون مترددة عليها تدخلها للعمل ثم تغادرها إلي حيث أتت؟
من الواضح أن المقومات المعلنة عن العاصمة الإدارية الجديدة تشير إلي استهداف استيعاب تجمع بشري قوامه 6.5 مليون مواطن عند اكتمال المشروع بمراحله الثلاث, ومن المفهوم أن الاستقرار الكامل للعناصر التي سوف تنتقل للعمل فيها في البداية لن يكون كاملا, إما لعدم توفر سكن كامل لمن يعمل أو لعدم وضوح الرؤية حول مصير أسرته… فبالقطع هناك أسئلة تبحث عن إجابات:
** من المنتظر أن يبدأ تشغيل المباني الأولي في الحي الحكومي بداية أغسطس المقبل -بعد أسبوع واحد من الآن- عبر عدد من الموظفين الذين سيتم نقلهم تباعا, وطبقا لما تم التصريح به فإن مجلس الوزراء منح الموظفين الذين سينتقلون حق الاختيار بين الحصول علي بدل سكن بالمدينة السكنية التي يتم إنشاؤها بالقرب من العاصمة أو بدل مواصلات لمن لا يرغب في الانتقال… إذا الاستقرار البشري ليس ملزما إنما هو اختياري… وهذه علامة استفهام.
** تم اختيار الموظفين المرشحين للانتقال للعمل في القطاع الحكومي في العاصمة الإدارية الجديدة بعناية فائقة ومنذ أكتوبر 2020 يتلقي هؤلاء دورات تدريبية تؤهلهم للعمل بالتوافق مع الأنظمة التكنولوجية الحديثة التي تم تجهيز جميع القطاعات بها… لكن هذا الخبر لم يتعرض لأسر أولئك الموظفين… ماذا يتم بخصوص زوجاتهم أو أزواجهن وكيف يتم إعادة تسكينهم أو تسكينهن في أعمال تتوافق مع ما يشغلون من وظائف أو أعمال؟… وماذا يتم بخصوص الأبناء والبنات في هذه الأسر وكيف يتم إعادة تسكينهم في مدارس أو معاهد أو جامعات في العاصمة الإدارية؟… لا أتصور أن الهدف من الانتقال العمراني إلي العاصمة الإدارية الجديدة يغفل بلورة رؤية واضحة لتحقيق الاستقرار الإنساني والبشري الذي عماده الأول هو الأسرة… وهذه علامة استفهام.
** إذا كنت أقول ذلك فلأن المعايير التخطيطية والعمرانية الراسخة والتي اتبعتها الدول التي سبقتنا في تأسيس عواصم سياسية وإدارية جديدة -مثل برازيليا في البرازيل, وشانديجار في الهند, وبريتوريا في جنوب أفريقيا.. وغيرها -استهدفت سحب الكثافات السكانية من العاصمة الأم المثقلة بالسكان وتأمين استيطانها واستقرارها في العاصمة الجديدة وقياسا علي درجات نجاحها في هذا الصدد كان يقاس مقدار نجاح الهدف من نقل العاصمة… إذا الأمر لا يتعلق فقط بمستوي التخطيط والإنشاءات وروعة المباني والتكنولوجيا الحديثة, ثم ينتهي الأمر إلي كونها عاصمة أعمال يدخلها من يعملون فيها في بداية يوم العمل ثم يغادرونها إلي العاصمة الأم مرة أخري في نهاية يوم العمل -وللعلم هذا ما آلت إليه أكثر من مدينة جديدة تم تأسيسها خلال العقود الثلاثة الماضية حول القاهرة مثل مدينة العبور ومدينة بدر ومدينة العاشر من رمضان- إنما الأمر يظل مرهونا بمعايير ضمان وتأمين كافة أوجه الاستقرار البشري والنشاط الإنساني والخدمات التي تسمح بالحياة المستقرة في العاصمة الإدارية الجديدة وعدم الاحتياج للعودة إلي العاصمة الأم إلا بمعدلات موسمية أو لأسباب اجتماعية… وهذه علامة استفهام.
*** هناك بالقطع علامات استفهام أخري كلها تتساءل: هل انصب اهتمامنا علي العمران وتغافلنا عن الإنسان؟