كمال زاخر
فى فمى ماء، والجرح غائر يأبى أن يندمل، والطبيب الجرّاح غائب أو بالأحرى مبعد، وقد أشرت قبلاً إلى أن الاعتماد على مصادر تروى الظمأ من جداول مياه متغربة بدأ هناك عند القمة حين حرص الأسقف العام نجم تلك المرحلة الغائمة، على الحصول على مؤلفات الواعظ الأمريكى الأشهر، بيلى جراهام، الذى دشن الكنيسة المتلفزة هناك، وجمعها له فى رحلته الأولى لأمريكا، تلميذه ـ آنذاك ـ والذى تم هرطقته لاحقاً، صارت هذه المجموعة خبز يومه ومداده الذى يملأ محبرته، ويجرى على سن قلمه ويملأ اثيره وشرائطه وسنوات اسئلته مع الناس.
عشت فى الستينيات فى بواكير خدمتى بمدارس الأحد هذه الخلطة السحرية، الدرس عناوينه ارثوذكسية براقة ومحتواه متغرب فى عناوينه الفرعية، ووسائل الإيضاح من الصورة الى اللوحة الوبرية إلى شرائح البروجيكتور، إلى الرسوم المتحركة حتى الفيلم الروائى، كلها تتوفر لنا بين مكتبة النيل ومراكز ثقافية مجاورة، نلعنها فى الصباح ونطرق ابوابها فى المساء - استعارة وشراءً - قبل هوجة الصور والتماثيل ووسائل الإيضاح الصينية.
كان كتاب (مؤمن أم مسيحى) وهو مترجم، يشاغب عقولنا ويستفزها، نقرأه خفية، نرفضه لكونه من اصدارات خارج اسوارنا، لكننا لا نستطيع إلا الاشتباك معه نصارعه ونغبطه، واذكر معه كتاب اخر "ثورة فى كنيسة" وكان انجيلياً أيضاً ومترجماً، وهما معاً كان يحملان أنينا عابراً للكنائس ويرسمان معاً معاينة لمواقع جريمة تم التأشير عليها بالحفظ. ...
كانت جبهة الإنقاذ تتشكل فى أعطاف حركة التكريس، فيما خمسينيات القرن العشرين تلملم ايامها والستينيات تتأهب للحضور، ويلتقط دير انبا مقار الخيط، ويوقد شعلة التنوير، ويفتح خزائن الآباء. ويتحول البئر الى نهر عذب جارٍ.
ويبقى فى فمى ماء ....
فمازال مشهد الشعب فى الاسبوع الكبير كما سجله الانجيل ماثلاً أمامى، وقد انتقل من هتاف المبايعة وطلب الخلاص، أوصنا يابن داود، الى هتاف "اصلبه اصلبه"، ذهب محرضو ذاك الزمان لكن مدرستهم مازالت قائمة، وانتقل الذين يطلبون نفس الصبى من باحات القصر الى فضاءات العالم الافتراضى، يوزعون اتهاماتهم ويشهرون السنتهم المسمومة بمباركة اصحاب القداسة. فقل لى بعد ثلاثة عقود ماذا يمكننى أن افعل؟
مازال قلمى مشهرا ومازالت اوراقى تسجل الخلجات والكلمات. حتى النفس الأخير، واثق انها ستصادف يوما من يعيد قراءتها وتفعيلها، ويضع نقطة فى نهاية سطر طال، لأجيال لا تربطها روابط مباشرة مع اولئك الذين سبوا كنيستنا خلف اسوار الذات.