فاروق عطية
في المقال السابق فندت الأكذوبة الكبري التي بني عليها ضباط انقلاب 23 يوليو السبب الرئيسي لحركتهم الانقلابية ألا وهي الأسلحة الفاسدة التي أدت إلى هزيمة 1948م. وبعد نجاح انقلابهم واستيلائهم علي السُلطة أضافوا المزيد من الأكاذيب وظل جهازهم الإعلامي في ترديدها بلجاجة حتي رسخت في أذهان العامة وتقبلوها كحقائق. من هذه الأكاذيب أن كل الأحزاب التي كانت قائمة قبيل الانقلاب كانت فاسدة، وأن مصر كان يتفش فيها الفقر والجهل والمرض، وأن حركتهم هي التي قامت باصلاح الأراضى وقضت على الإٌقطاع ووزعت هذه الأراضي علي الفلاحين، وأن حركتهم هي التي أقرت مجانية التعليم، وأنها صاحبة الفضل علي متعلمي الأجيال التي عاصرتها وحتي اليوم، ولولاها لظل التعليم مقتصرا علي أبناء الأمراء والباشوات والباكوات وأبناء الأثرياء ومن استطاع إليه سبيلا، ولظل أبناء الشعب ومعظمهم فقراء كما هم جهلاء أميين حتي يومنا هذا. وأن الاقتصاد المصري كان متدني ويعتمد علي الزراعة البدائية وأنهم من طوروا الاقتصاد ورفعوا من قيمته، وغيرها من الأكاذيب الفجة.
عن أكذوبة الجهل ومجانية التعليم: فى زمن الجهل المزعوم ظهر أفزاز مصر العظام أمثال طه حسين وعباس العقاد وسلامة موسى ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وبنت الشاطئ، وسيد درويش ومحمد عبدالوهاب وأم كلثوم وبيرم التونسى وزكريا أحمد والسنباطي، والشيخ محمد رفعت والشيخ على عبدالرازق وغيرهم الكثير. ونسو أو تناسو أن مجانية التعليم التي يدّعون أنهم أول من حققوها، أن الدكتور طه حسين قد رفض تولي منصب وزير المعارف عام 1950م في حكومة مصطفى النحاس حتى تقر الحكومة مجانية التعليم حتى المرحلة الثانوية فكان له ما أراد وتولي الوزارة من عام 1950ـ1952م وحقق حلمه بأن يكون التعليم حق للحميع كالماء والهواء.
حتي قبل طه حسين بعشرات السنين كان أبناء الفقراء يتعلمون بل يجبرون علي التعليم بالقانون. كانت هناك المدارس الإلزامية في القري والنجوع التي يُلزم فيها الأطفال علي التعلم اجباريا من سن السابعة وبدون مصاريف وهذه المدارس تكافئ المدارس الابتدائية في كل المواد عدا أنها لا تدرس اللغة الإنجليزية. كان عدد سنوات الدراسة بالمدارس الابتدائية أربعة سنوات، يدخلها التلاميذ بعد اختبار قدرات تعليمية كإجادة القراء والكتابة ومبادئ الحساب كالجمع والطرح والضرب والقسمة التي يتعلمها التلميذ في مدارس الحضانة أوالكُتّاب (مدارس الحضانة كانت ترعاها الكنائس مجانا والكًتّاب يقوم بها ما يسمي بالفقي نظير بعض المأكولات). وفي نهاية السنة الرابعة يعقد امتحان علي مستوي المديرية للحصول علي شهادة عامة تؤهل الحاصلين عليها للعمل الحكومي. من كان يحصل علي الشهادة الابتدائية أُجزم أنه كان مثقفا وملما بكل مناح الحياة الحياتية أفضل من كثير من خريجي جامعات هذه الأيام، فهو يجيد اللغتين العربية والانجليزية اجادة تامة ويجيد كل أنواع الحساب ويجيد الجفرافيا العامة وتاريخ مصر والكتير من علوم البيولجي والصحة العامة ومكونات جسم الانسان إضافة للخط الواضح الجميل.
المصروفات الدراسية بالمدارس الابتدائية كانت أربع جنيهات للعام الدراسي. وفي الغالب لا يدفعها معظم التلاميذ. كان الموظف الذي لديه أكثر من تلميذ بالمدارس يتقدم بشهادة تثبت ذلك معتمدة من شيخ البلد أوالعمدة فيعفي أبناؤه من المصاريف أومن نصفها حسب عدد أبنائة. أما أبناء الفقراء (العمال والمهنيين والباعة) كانوا يتلقون العلم مجانا بمجرد تقديم شهادة تثبت عدم المقدرة. في المقابل تلتزم المدرسة بتقديم كل الكتب المدرسية والكراسات والكشاكيل وكراسات الرسم ودفاتر خاصة بالخط العربي واللغة الانجليوية، وأقلام الرصاص والأساتيك وريش الكتابة وأسنانها المختلفة (بسط ونسخ ورقعة) ويوضع الحبر في دوايات مثبتة بالتُخَت، والطالب لا يشتري شيئا خلال مدة الدراسة مقابل المصاريف التي لا يدفعها معظمهم. المدرسون أكفاء يقومون بواجبهم في التدريس خير قيام وينتظر كل منهم في حجرة المدرسين طوال اليوم الدراسي يجيبون أسئلة أي تلميذ يحتاج الإجابة، ولا مجال إطلاقا للدروس الخصوصية. كانت الفصول لا تحوي علي أكثر من 24 تلميذا وقد يكون بعضها أقل عددا.
المدارس الثانوية كانت مدة الدراسة بها خمس سنوات. آخر السنة الثانية يعقد إمتحان عام علي مستوي المديرية للحصول علي شهادة الكفاءة. بعض الطلبة يكتفون بهذه الشهادة للعمل ويستمر الباقون. وفي نهاية العام الدراسي للسنة الرابعة يعقد امتحان علي مستوي المديرية للحصول علي شهادة الثقافة العامة التي تؤهل للاتحاق بكليات الشرطة أوالجيش أو العمل. في السنة الخامسة (التوجيهية) تنقسم الدراسة بين الطلبة حسب رغباتهم إلي قسمين رئيسيين.
القسم الأديي وينقسم لشعبتين هما أدبي رياضة وأدبي فلسفة. والقسم العلمي ينقسم أيضا لشعبتين هما علمي علوم وعلمي رياضة.
المصروفات المدرسية للمدارس الثانوية كانت ستة جنيهات مصرية، أيضا لا يدفعها معظم الطلبة كالمتفوقين في الشهادة الابتدائية والمتفوقين رياضيا ومن يقدمون شهادة عدم مقدرة. أيضا كانت المدرسة تقدم جميع الكتب والكراسات والكشاكيل والآقلام والريش وجميع متطلبات الهوايات كالتصوير والنحت وأشغال الخشب والجلد كل ذلك ولا يشتري الطالب طوال سنوات الدراسة شيئا. والمدرسون في منتهي الكفاءة التدريسية يبذلون كل جهدهم داخل الحصة الدراسية ويفرحون بتفوق أبنائهم ويعتبرونها ثمرة نجاحهم في التدريس، ولا مجال إطلاقا للدروس الخصوصية. وكانت الفصول لا تحوي علي أكثر من 24 طالبا وقد يكون بعضها أقل عددا. التفوق في التوجيهية كان يبدأ من 70% ولم نسمع قط علي أحد حصل علي أكثر من 80% وذلك لأن التصحيح كان يحاسب علي كل كبيرة وصغيرة كحسن الخط والتنسيق والشطب وسلامة التعبير. لم تكن هناك درجات رأفة أو سرقة مجهود طالب نابه لصالح أخر فاشل من أبناء المحاسيب وعلية القوم كما يحصل اليوم وكما عايناه في مشكلة الطالبة مريم ملاك المجني عليها.
كان في المملكة المصرية كلها ثلاث جامعات هم جامعة فؤاد الأول وقد أنشئت 21 ديسمبر 1908م تحت اسم الجامعة المصرية الأهلية في عهد الخديوي عباس حلمي. وفي 11 مارس 1925م صدر مرسوم بقانون إنشاء الجامعة الحكومية باسم الجامعة المصرية، وفي 23 من مايو عام 1940م صدر القانون رقم 27 بتغيير اسم الجامعة المصرية إلى جامعة فؤاد الأول (تغير إسمها بعد الحركة إلي جامعة القاهرة). وجامعة فاروق الأول بالإسكندرية التي أنشئت عام 1942م (تغير إسمها بعد الحركة إلي جامعة الإسكندرية). وجامعة ايراهيم ياشا بالعباسية التي تأسست في يوليو 1950م (تغير إسمها بعد الحركة إلي جامعة عين شمس). وكان التعليم الجامعي يماثل التعليم في أرقي جامعات العالم ويُقبل خريجيها ويعترف بشهاداتهم في جميع أنحاء العالم.
المصروفات الجامعية كانت ثمان جنيهات للكليات النظرية واثنا عشر جنيها للجامعات العملية وأيضا معظم الطلاب يعفون من المصروفات للتفوق في شهادة التوجيهية (70% فما فوق) أو للتفوق الرياضي أولعدم المقدرة المالية. في الكليات العملية معامل مجهزة بكل الأدوات والأجهزة والمعدات مثل أرقي معامل العالم المتقدم، ويقوم الطلاب بإجراء كل التجارب المعملية بأنقسهم.
أما تعليم اليوم حزني وأسفي عليه، ينتقل التلميذ من المرحلة الابتدائية لا يستطيع كتابة إسمة أو قراءة بضع كلمات. ويظل في المرحلة الإعدادية أيضا أميا إلا إذا لجأ ولي أمره للدروس الخصوصية حتي يستطيع المرور من المرحلة الإعدادية إلي المرحلة الثانوية. وخطوطهم إذا كتبوا تضاهي نبش الفراخ ومن العسير قراءتها. وحدث ولا حرج عن المرحلة الثانوية الغياب مستمر، والمدرسون يتعمدون تضييع الحصص فيما لا يفيد حتي يحصلون علي عدد وافر من الدروس الخصوصية. وينجح الطلاب بالغش الذي أصبح ظاهرة عامة لدرجة وجود سيارات تذيع الإجابات بجوار المدارس، وتسريب أوراق الامتحانات صار شيئا مألوفا، والنتيجة تخرج طلاب متفوقون بالغش، يدخلون الجامعات وكليات القمة وهم جهلاء. ويتخرج أجيال لا يصلحون لقيادة الدولة وننحدر من سيئ لأسوأ والدليل وزير التربية والتعليم الذي لا بجبد الكتابة بالعربية ويخطئ في الإملاء ولا يميز بين الذال والزين ولا يعي قواعد النحو.
عن أكذوبة أن الحركة هي التي قامت بالإصلاح الزراعي وتوزيع الأراضي علي الفلاحين المعدمين، هي أكذوبة كبري وما قامت به الحركة هي الاستيلاء علي أرضي الإقطاع وتوزيعها علي الفرحين مما أدي إلي تفكيك الملكيات الكبيرة التي كانت قادرة علي زراعتها بأحدث الأساليب الزراعية المميكنة لتعطي منتوجا وافرا، وحين تجزئتها وزراعتها بالطرق البدائية تضاءلت غلتها، وكان من الممكن والأجدى بدلا من الاستيلاء على الإقطاعيات فرض ضرائب تصاعدية تأتي بثمارها. أما ما فعله الملك فاروق الأول عام 1948م كان رائدا وأطلق عليه حينها "تورتة فاروق"حيث بدأ جلالته بإصلاح الأراضى البور في الدلتا (مشروع الملكيات الصغيرة) أو كما يطلق عليه حديثا الاستصلاح الزراعى، قام حلالته بتوزيع الأرض على الفلاحين فى قرية كفر سعد بدمياط حيث أُعطيت كل أسرة خمسة أفدنة من أراضي الدولة المستصلحة دون المساس بحقوق وملكيات ملاك الأراضى الآخرين كما قام بتوزيع بقرة ومنزل مكون من طابقين على كل أسرة، شرط الحفاظ على خصوبة التربة ومعدل إنتاجها وتم إصدار عملة بهذه المناسبة الوطنية، وكان عدد الأسر المستفيدة 600 أسرة.
وفى عهد الفقر المزعوم، أقام طلعت باشا حرب 43 شركة أساسية فى جميع المجالات باستثمارات وطنية ما زالت تمثل قاعدة قوية للاقتصاد الوطنى حتى يومنا هذا. كما أنشأ أحمد عبود باشا عدة شركات صناعية في مصر وإنجلترا اضطلعت بإنشاء السفن والطرق والجسور، كما كان صاحب النصيب الأكبر في شركة الأمنيبوس العمومية بمصر وغيرها من الشركات الصناعية والهندسية كالشركة المصرية للأسمدة والصناعات الكيماوية بالسويس وشركات انتاج السكر في عديد من مدن الصعيد، وقام بتمصير شركة البواخر الخديوية بعد أن امتلك معظم أسهمها، التي كانت قبل ذلك في أيدي الإنجليز، وكانت آنذاك من أقوى شركات الملاحة في مصر، بما تمتلكه من الأرصفة والأحواض الجافة في الإسكندرية والسويس، إلى جانب الورش التابعة لها والتي كانت تعد مدرسة لتعليم الشبان المصريين فن إنشاء السفن.
وفى هذا العهد كان السائح المصرى هو أهم سائح فى لبنان، حتى إنهم يطلقون على العملة فى بلادهم لقب «المصارى» نسبة إلى المصريين.
كانت العملة المصرية (الجنيه المصري) من أقوي العملات العالمية. تقول الإحصاءات إن سعر الدولار الأمريكى عام 1950م كان 20 قرشاً، وإن الجنيه الإسترلينى كان سعره 97 قرشاً، وإن الفرنك السويسرى كان سعره ثمانية قروش! وكانت المصانع الإنجليزية فى مدينتى مانشستر سيتى ويوركشاير تعتمد على القطن المصرى فى الصناعة.
وفى زمن كبت الحريات المزعوم كان لدى مصر أفضل دستور يعلى الحريات والقيم وهو دستور 1923م الذى كان ينافس نصوص وروح دستورى فرنسا وبلجيكا. وفى زمن كبت الحريات المزعوم كان البرلمان يسحب الثقة من الحكومات ويسقطها الواحدة تلو الأخرى. وفى هذا الزمن أيضاً رفض رئيس الحكومة طلباً للملك فاروق كى يسحب مبلغاً نقدياً على ذمة مخصصاته الملكية قبل أن يعرف أوجه صرفها، وكان الملك يريدها من أجل نفقات زفافه! وفى هذا العهد خسر مرشح الملك فى انتخابات نادى الضباط أمام مرشح غير موالٍ له هو اللواء محمد نجيب! وفى هذا العهد قام القضاء المصرى الشامخ بتبرئة أنور السادات، ومحمد إبراهيم كامل، وسعيد توفيق، وآخرين من تهمة قتل أحد عملاء الإنجليز (أمين عثمان) رغم أن أركان الجريمة الجنائية كانت واضحة إلا أن وطنية القضاء غلبت على كل شىء آخر.
هذا لا يعنى أن البلاد لم تكن تعرف الفساد أو المحسوبية، أو أن النظام الملكى لم يكن لديه عيوب، ولكن الأهم أن الرقابة الشعبية كانت متوافرة، وحرية الصحافة كانت مؤثرة، وسلطة القضاء كانت حرة رغم الاحتلال، وأن سلطة البرلمان كانت فوق الجميع. تلك هى الحقيقة كما أراها وكما يراها من عاش أيام الزمن الجميل التي نتمني أن تعود ولكن هيهات أن تعود..!!