فيفيان سمير
وضع أمامه النادل كوب الشاي الساخن الثالث في أقل من ساعة، أشعل سيجاره الفاخر وأرتشف القليل من الشاي، وكعادته هرب ببصره خارج الجدار الزجاجي للمقهى، ينحشر بروحه بين المارة لعله يشعر بالونس الذي يفتقده، بدفيء أجساد البشر الذين تخلو منهم حياته. يقضي جانبا كبيرا من نهاره جالسا بذلك المقهى بالذات، يراقب المارة ويغرق بأحلام اليقظة التي سرقه العمر دون تحقيقها. يهرب من وحدته التي تطارده وسكون الموت الذي يغلف حياته. دائما ما كان يكره الضجيج والصوت العالي، لكنه الآن يشتاق لسماع أصوات حوله تشعره أنه مازال حيا، أن هناك من يحتاج إليه ويشتاق له، أن هناك من ينتظره ويقلق لغيابه أو حتى يلومه ويثور عليه.
يلمحها تعبر الطريق مسرعة فيجمد في مكانه، هل يسرع خلفها ام يعتبره حلم يقظة من أحلامه الكثيرة التي تراوده كل يوم ومن الجنون ملاحقته. وقفت بالجانب المواجه للمقهى كأنها تنتظره، كأنها تدعوه ليأتيها، تسمرت عيناه عليها، نهض منتفضا وهم ليلحق بها، ثم عاد ليجلس في مكانه مجددا، ظل مترددا في قراره يعاود الوقوف والجلوس عدة مرات، انتهت بأن ترك الحساب علي المائدة وأسرع بالخروج للشارع ليعبر الطريق حاسما أمره أن يلحق بها ويحادثها، ملقيا بتحذيرها الذي مازال يتردد بأذانه عرض الحائط.
كانا جالسين بنفس المكان حين صرخت بوجهه "مش عاوزه اشوفك تاني ولا حتى المحك لحد اخر يوم في عمري، انت خيبتي وخطيئتي التي لن اسامح نفسي عليها ما حييت". كانت محقة بعد ان خذلها وأحرجها أمام والديها، لم يفي بعهوده لها وخلف ميعاده مع والدها، ثم وقف بكل هدوء يخبرها أن الطريق امامه طويل ليحقق أحلامه بالمركز الاجتماعي والثراء، وأن الزواج سيعطله وربما يقضي على حلمه نهائيا، ويسجنه داخل وظيفة متواضعة ومسؤوليات لا تنتهي، تثقل كاهله وتعوق خطواته. حاولت أقناعه أنها ستقف بجواره وتدعمه بكل اختياراته، إلا التخلي عن حلمهما الذي عاشا به سنوات، أغرقت دموعها كلماتها المتوسلة، وغامت نظراتها المعلقة بخيط عينيه البارد كحد السكين، لكن شهوته للمال كانت تملكه وتغيبه، وهوس الثراء والنفوذ يسيطر عليه، فرفض فكرة الارتباط نهائيا ملقيا بكل المشاعر وسنوات الصبر وأحلام القلوب خلف ظهره، ماضيا بطريقه غير عابئ بتلك التي تموت قهرا والما، لكنها أقسمت ألا تموت.
تعالت أصوات مكابح السيارات وأبواقها التي أربكها توقفه المفاجئ بمنتصف الطريق، حين اتسعت ابتسامتها التي لم يطفئها الزمن فظن أنها تشجعه ليصل إليها، لكنه أنتبه أنها لم تراه، شله مرأى عينيها تتبع شابين صغيرين يضحكان وهما يداعبان رجلا يبدو والدهما، ينضمان إليها حيث تقف ويهمس أحدهما بأذنها فتضع يدها على فمها تخفي ضحكتها التي تفجرت تشهد بمدى سعادتها، ثم تحتضن ذراع الرجل وتسند رأسها على كتفه في دلال، بينما يتقافز الشابين حولهما في مرح وضحكاتهما تجلجل. أفاق من ذهوله وبعض المارة يسحبونه إلى جانب الطريق، وقد أنتبه الجميع على صوت الجلبة التي حدثت، بما فيهم تلك الأسرة الصغيرة التي تطاردها نظراته، فالتقت بنظراتها المضطربة التي سرعان ما هدأت لسلامته وهي تومأ له محيية، ولا يعرف إن كانت قد عرفته أم أن أثار الزمن أخفت هويته عنها، ولم يعد بالنسبة لها سوى أنسان كان في خطر ونجا منه.
ذهبت أخذة معها حتى الحلم، أستند هو ليد غريب حتى وصل لسيارته الفارهة، دلف إلى داخل السيارة وأدار المحرك، كان يشعر ببرودة شديدة ويكاد يتجمد فمد يده ليدير المكيف، بينما تمر هي من أمامه بيدها "بسكوتة الأيس كريم" الذي تعشقه وذراع أبنها تلتف حول كتفيها وتضمها لحضنه بقوة.