مؤمن سلام
یعاني العقل المصري من كثیر من الأمراض تجعله غیر قادر على التفكیر بطریقة فعالة ومنتجة. وهو ما یؤدي الي فشل اى مشروع للنهضة او الانتقال الي عصر الحداثة. ولذلك فكل محاولة للتطویر او للنهوض لا تقوم على علاج امراض العقل المصري هى بالضرورة محاولة فاشلة. فالعقل هو الذي یحدد مسار الامم وقد اظهرت الاحداث الكثیرة والمتسارعة في الخمس سنوات الأخیرة، مرض خطیر یعاني منه العقل المصري بجانب مرض العقلیة النقلیة والتفكیر الخرافي، وهو مرض التفكیر الجزئي (میكرو)، في مقابل التفكیر الكلي (ماكرو). فنحن دائما ما ننظر للاحداث والظواهر ونحللها بناء على جزء صغیر في الحدث او الظاهرة، ولا نضعها في سیاقها العام او الكلي، ولذلك غالبا ما ننتهي الي تحلیلات خاطئة تؤدي بنا الي الفشل والتراجع.
وهذه العقلیة الجزئیة هي ایضا ما تسمح لرجال السیاسة والدین والاعلام بتضلیل الجماهیر والسیطرة علیها من خلال شد انتباها الي جزء صغیر من الصورة الكلیة لتنشغل به، بینما یقوم التحالف الحاكم بالتلاعب بمصیر الوطن ودعونا ننظر الي حدثین حدثوا بالامس، وهما مظاهرة طلبة الثانویة العامة، وترحیل الاعلامیة لیلیان داوود من مصر. وظاهرتین في المجتمع المصري هما البنات والشیشة، وتصاعد الالحاد.
نظرت العقلیة المیكرو لمظاهرات طلاب الثانویة العامة باعتبارها فوضى ومؤامرة وفي اطار تسریب الامتحانات وهل نعید الامتحانات ام لا؟ لم یدرك العقل المیكرو، للمشهد الكلي او الماكرو المتعلق بالتغیرات الاجتماعیة الثورة الصامته كما سمتها مجلة الفورن بولیسي. فهؤلاء شباب تتراوح اعمارهم بین سبعة عشر وثمانیة عشر عام، لهم قضیة، وجدوا أن التنظیم الذي یجب ان یعبر عنهم ویمثل مصالحهم وهو اتحاد الطلاب غائب، فنظموا وحشدوا وذهبوا للطرف الاخر في المشكلة، للتعبیر عن مطالبهم. أما لیلیان داوود، فالعقل المیكرو سیرى في ذلك انتصار عظیم للدولة وللزعیم وتخلص من عمیلة اجنبیة متأمرة اجندة. ولن یضع الحدث في اطارة الماكرو، وهو تصاعد القمع وتغول الدولة البولیسیة، فى وقت یزداد الغضب الشعبي فیه لأسباب اقتصادیة، ومع صعود جیل لا یخاف الموت والاعتقال مثل طلاب الثانویة العامة، وفي ظل مجتمع دولي غیر متسامح مع الاستبداد.
من سنوات طویلة لم تكن المقاهى مكان للبنات والستات، ثم اصبحت مكان لهم ولكن في اطار شله من الولاد والبنات، تستطیع البنت معهم تدخین الشیشة التفاحة، ثم اصبحت تدخن المعسل قص او سلوم او زغلول، ثم اصبحت تجلس على القهوة وحدها تدخن المعسل وتتصفح الانترنت على موبیلها مثل اى شاب او رجل. صاحب العقلیة المیكرو سیرى هذه الظاهرة في اطار اخلاقي، لیدلل إلى انحدار الاخلاق وتفسخ المجتمع، ولن یراها في اطارها الماكرو، كجزء من الثورة الثقافیة والاجتماعیة وسعي البنات لاخذ مكانهم المساوي للرجال في الفضاء العام، وفرض وجودهم رغم انف المجتمع المحافظ.
اما ظاهرة الالحاد المتصاعد، فبداخلها ظاهرة اخرى، وهى ظاهرة من یكتمون الحادهم من الخوف.حتى ان احدهم یعمل في مصلحة حكومیة فیضطر لصلاة الظهر تحت الارهاب المعنوي لزملاء العمل. العقل المیكرو لن یرى في ذلك الا الاضطهاد والارهاب. اما العقل الماكرو فسیضعها في سیاق الثورة الإجتماعیة، ویضعها مع الظواهر الاجتماعیة الاخرى المختفیة بسبب الاستبداد المجتمعي مثل الجنس خارج الزواج والمثلیة الجنسیة وسعي الشابات والشباب للاستقلال عن اسرهم.
وهى ظواهر متزایدة سیأتي علیها یوم تنفجر في وجه المجتمع وتفرض علیه وجودها العلني وفي النهایة سیقوم العقل الكلي بربط هذه التغیرات الاجتماعیة بالنظام السیاسي والاقتصادي الذي بالضرورة سیتغیر نتیجة هذه التغیرات الاجتماعیة، سواء تغیر هادئ اصلاحى او تغییر ثوري عنیف. بینما سیظل العقل الجزئي ینظر لهذه الاحداث والظواهر كجُزر منعزله.