بقلم يوسف سيدهم
آثرت أن أؤجل كتابة هذا المقال بضعة أسابيع حتي أبتعد قليلا عن الاحتفالات التي عمت مصر بمناسبة الذكري الثامنة لثورة 30 يونيو المجيدة (2013 ـ 2021) والتي هي بحق ثورة الإنقاذ لمصر وانطلاق حقبة الجمهورية الخامسة بعد جمهوريات ناصر و السادات ومبارك ومرسي ـ فلم أكن أرغب في أن يؤخذ هذا المقال علي أنه عزف نشاز عن سيمفونية التغني بثورة الشعب المصري التي أطاحت بحكم الإخوان وخلصت مصر من أكثر سنوات عصرها الحديث بؤسا وكآبة وتخلفا.
فعلي جميع الأصعدة شهدت مصر بالفعل بعد 30 يونيو 2013 وبعد الإطاحة بحكم الإخوان ثورات من الإصلاح والتطوير والتقدم سوف يذكرها التاريخ بأحرف من نور.. ولا غرابة أو مبالغة إذا قلت إن التاريخ سيوثق إنجازات حقبة الجمهورية الخامسة جمهورية السيسي باعتبارها حقبة الإنقاذ والميلاد الجديد لمصر, حيث تم انتشال مصر من مراتب متدنية انحدرت إليها قبل 30 يونيو ليعاد تشكيل معالمها الحضارية ومقوماتها الاقتصادية وسياساتها الداخلية والخارجية حتي تبوأت المكانة الرفيعة التي تليق بها بين دول العالم.
وسط هذه الاحتفالات يليق بنا ونحن نرصد الإنجازات بكل فخر ألا نغفل رصد الإخفاقات بلا تردد أو خجل لأن المواجهة الأمينة لتقييم جهود التطوير في أي مجال هي سبيل إدراك أهداف التطوير… واليوم أتعرض لملف إصلاح التعليم الذي يعد من أهم الملفات القومية التي تعول عليها سياسات الإصلاح لإدراك مقومات ومعايير تقديم جيل جديد من المواطنين المصريين قادر علي مواكبة مفاتيح التقدم وامتلاك تكنولوجيا المعرفة والعلم والإبداع لوضع مصر بين مراتب الدول المتقدمة مستقبلا.
وكما كتبت في مقال سابق منذ عدة شهور هناك تحد كبير تمر به مصر علي مسار إصلاح نظامها التعليمي… تحد يقوده وزير التربية والتعليم الدكتور طارق شوقي الذي يمتلك خبرة عميقة ورؤية حديثة لتطوير نظامنا التعليمي.. لكن التحدي لا يكمن في مجرد امتلاك الخبرة والرؤية إنما في المعركة الشرسة التي يخوضها ضد القوي الرجعية التي لا تزال تدافع باستماتة عن بقاء نظام التعليم القديم وتقاوم أي جديد… صحيح أن مقاومة الجديد تتراوح بين الدفاع عما هو معروف أمام ما هو جديد ومجهول وبين التمسك بمكاسب يؤمنها النظام القديم للمستفيدين منه وبين الانصياع لشكاوي وصرخات أولياء أمور التلاميذ والطلبة الرافضين للتغيير.. لكن الحقيقة المحتم مواجهتها هي أن المعركة الشرسة التي يقودها وزير التربية والتعليم هي بين نظام تعليم قديم يعتمد علي التلقين ونظام تعليم جديد يعتمد علي الإبداع.
والحقيقة أنني وأنا أفتح هذا الملف أضع أمامي مقالا رائعا خطه قلم واحد من رواد الفكر في مصر هو الدكتور مراد وهبة نشر في الأهرام بتاريخ 27 أبريل الماضي ضمن سلسلة مقالاته: رؤيتي للقرن الحادي والعشرين.. ويوثق الدكتور مراد وهبة فيه مسار محاولات تطوير التعليم التي قادها وزراء تعليم منذ ثمانينيات القرن الماضي وعلي وجه الخصوص الدكتور فتحي سرور ومن بعده الدكتور حسين كامل بهاء الدين, وكل منهما كان يبشر بسياسة جديدة تهدف إلي إنهاء نظام التلقين والحفظ والكتاب المدرسي والمنهج الجامد وإحلال نظام التعليم بالإبداع ومفاده إحلال ثقافة الفكر والمعرفة والشك في المعلومة والبحث عنها حتي التثبت منها محل ثقافة الذاكرة… وكما قيل وقتها لم تعد القضية أن يحفظ الطالب القوانين العلمية بل تدريبه علي كيفية إبداعها.
لكن للأسف لم يكن وقتها القرار السياسي مساندا لرؤية أي من الدكتور فتحي سرور أو الدكتور حسين كامل بهاء الدين, وتمت إقالتهما من قمة الهرم التعليمي ليبقي نظام التعليم علي ما هو عليه بدعوي عدم إثارة الجماهير!!!
أما اليوم فمن الواضح أن هناك تغييرا, فالقيادة السياسية تؤمن بحتمية تطبيق سياسات إصلاح وتطوير التعليم وتساند رؤية الوزير الدكتور طارق شوقي في القضاء علي صنم التعليم بالتلقين وإحلال أنظمة حرة تفرز شغف المعرفة والقدرة علي مواكبة تطورات العصر وامتلاك مقومات الإبداع من أجل إنتاج جيل جديد من أبناء وبنات مصر يقودونها نحو المستقبل.
لكن للأسف يبدو أن تلك السياسات وهذه الرؤية لاتزال تواجه مقاومة شرسة… مقاومة ليست قاصرة علي أصحاب المصالح فقط, بل مقاومة وجدت طريقها إلي قبة البرلمان لتنقل لوزير التربية والتعليم نبرة غضب واحتجاج الشارع المصري علي السياسات الجديدة التي تمثل له المجهول… قلبي مع الوزير في معركته وأتمني أن تستمر مساندة القيادة السياسية له وأن يتم تكثيف جهود تسليط الأضواء علي مزايا إصلاح التعليم لاكتساب درجة طمأنة وثقة ورضاء لدي المواطنين إزاءها.
وكما كتبت مسبقا, أظل بالرغم من إيماني العميق بسياسات الدكتور طارق شوقي متوجسا ومشفقا عليه إزاء إصراره علي تطبيق تلك السياسات علي جميع ـ وأكرر جميع ـ مراحل التعليم في جميع مدارس مصر… وأري أن ذلك التوسع الكاسح ساهم في خلق جزء غير قليل من المشاكل التي تعترض نجاح السياسات.. ومازلت أتصور أنه كان الأجدر بتلك السياسات أن تطبق مرحليا علي شريحة من المدارس التجريبية لإمكان السيطرة علي إعداد مدرسيها وتقييم مدي استيعاب تلاميذها وطلبتها.. وتقديم النماذج الجديدة المتطورة المبدعة الناجمة عنها للمجتمع.. وأؤمن أن وقتها كان المجتمع سيتحول من مقاوم للسياسات ومحتج عليها إلي ساع للانضمام إليها ومؤيد لها.