كمال زاخر
اشكالية الأسقف العام :
كانت بداية تعرف الكنيسة فى العقود الأخيرة على مصطلح "الأسقف العام"، مع رسامة اسقفين للتعليم والخدمات الإجتماعية عام 1962، بيد قداسة البابا كيرلس السادس، فلأول مرة يقام اساقفة بدون رعية، التى استبدلت بمهام ومسئوليات عامة، كان مهندس الفكرة القمص صليب سوريال، وهو أحد أهم الآباء المتخصصين فى القانون الكنسى، لخلفيته القانونية بحكم دراسته فى كلية الحقوق جامعة فؤاد الأول (القاهرة حاليا) 1936 ـ 1940،
(أسند إليه تدريس القانون في الإكليريكية سنة 1964 م.، ثم تولى تدريس: القانون العام - القانون الكنسي - الأحوال الشخصية، وذلك في إكليريكيات القاهرة والإسكندرية وفي المهجر ـ جيرسي سيتي، لوس أنجلوس- وفيها قام بتدريس القانون باللغة الإنجليزية، وله اصدارات عديدة تعد من المراجع البحثية القانونية الكنسية التى اعتمدتها الكنيسة).
ولعله استلهم هذه الفكرة من تجربة تاريخية رصدتها المؤرخة الاستاذة ايريس حبيب المصرى فى كتابها المرجع "قصة الكنيسة القبطية" الكتاب الرابع الذى يغطى احداث الفترة من 1517 وحتى 1870م.
وليأذن لى القارئ أن انقل ما سجلته فى هذا الشأن دون تدخل منى :
[وكان الله فى شامل حكمته قد هيأ لكنيسته الرجل الذى يرعاها رعاية الأب الحقيقى فيوفر على الأساقفة والأراخنة ضرورة الاجتماع للتشاور فى هذه السنوات المتأرجحة. ذلك أن الأنبا مرقس الثامن (1769 ـ 1809) أراد أن يرسم مطراناً على الحبشة فوقع اختياره على الراهب مرقوريوس المولود فى بلدة الجاولى المتعبد بدير كوكب البرية أبى الرهبان، غير أن التدبير الإلهى رتب تأجيل الرسامة ورأى البابا المرقسى أن يستعين بهذا الراهب الذى استقدمه من البرية فرسمه مطراناً عاماً للكرازة المرقسية باسم ثيئوفيلس وأبقاه إلى جانبه فى الدار البابوية ليستشيره وليجعله مهيمناً على الأمور الإدارية، فعاش إلى جانبه مذاك، فلما اتت الساعة ليختار الأساقفة والأراخنة الخليفة المرقسى وجدوا ضالتهم المنشودة فى شخص الأنبا ثيئوفيلس الجاولى فلم يحتاجوا حتى إلى رسامته لأن الشعائر المقدسة التى ترفع الراهب إلى الأسقفية هى بعينها التى ترفعه لتجعل منه البابا الاسكندرى. ذلك لأن القانون الكنسى الأصيل يعتبر البابا الأخ الأكبر بين إخوته الأساقفة ... وتعلق الكاتبة فى هامش ان الأسقف الذى يصبح بابا تتلى عليه صلوات "تنصيب" لا صلوات "رسامة"].
وفى هامش مهم تعلق المؤرخة المدققة على رسامة مطران عام (بلا ايبارشية وبلا رعية) بقولها :
[هذه أول مرة فى تاريخ الكنيسة القبطية يقام فيها مطران عام لأن جميع الباباوات السابقين على الأنبا مرقس الثامن حينما كانوا يستعينون بالرهبان فى مختلف المهام الكنسية لا يمنحونهم اكثر من رتبة القمصية لأنهم كانوا مقتنعين بالتعليم الرسولى الذى يرى وجوب رسامة اسقف على شعب معين حسب قول الإنجيل عن رب المجد "اسقفنا وراعى نفوسنا".
فكان مساعد البابا الذى اعتاد الشعب أن يصفه بكلمة "تلميذ" راهباً لا يزيد على "القمص"، أما فى سنة 1802 ـ أى بعد تعاقب مئة وسبع من الباباوات على مدى 1734 سنة ـ فقد اختط الأنبا مرقس الثامن خطة رسامة مساعده أسقفاً، ولئن قيل أنه صاحب الحق فى الرسامة إلا أن القانون الكنسى الأصيل يقول بأن أية خطوة جديدة يجب عرضها على المجمع والعمل بمقتضى رأى الأغلبية ...وبما أن كنيستنا القبطية ـ والكلام مازال للاستاذة المؤرخة ـ لا تؤمن بعصمة انسان مهما سما فيمكننا نحن الشعب القبطى أن نقول (مع احترامنا الجزيل) بأن البابا مرقس الثامن قد أخطأ فى هذه الرسامة. وإن كان الماضى لا يعاد إلا أن أخطاءه يجب أن تذكر لعلنا بهذا التذكير نتجنب الوقوع فيه مرة أخرى.].
نعود بعد التأصيل التاريخى لفكرة الأسقف العام، إلى احياء البابا كيرلس لها، فقد كان التنظير والتأصيل مهمة القمص صليب سوريال، والذى رأى فيها مخرجاً من التزام البابا بأخذ موافقة المجمع، والذى كان لا يستريح إلى جيل الرهبان الجامعيين الجدد، فيما كان المحفز للدفع بهذا الجيل ليجدوا مكاناً فى دائرة اتخاذ القرار بالقرب من البابا، هو الدكتور حنا يوسف حنا القريب الصلة بالبابا، والقريب الصلة انسانياً بالرئيس جمال عبد الناصر، وبحسب روايته لى، كانت رؤيته التى نقلها للبابا، ان شباب الرهبان الذين دعموه فى مسيرته نحو كرسى الباباوية يستحقون مكاناً بالقرب منه فى الدار البطريركية، يوظف طاقاتهم ومحبتهم للكنيسة، فاستدعاهم وضمهم لطاقم سكرتاريته، وتأتى مشورة القمص صليب سوريال رفيق الراهب مكارى السريانى فى مدارس أحد الجيزة، بعد فترة وجيزة، باختياره ورفيقه الراهب انطونيوس السريانى اسقفين عامين الأول للخدمات والثانى للتعليم، وحين يتصاعد الصدام بين اسقف التعليم والبابا حتى إلى حد اعادة الاسقف الى الدير، تأتى مشورة القمص صليب سوريال، برسامة القمص باخوم المحرقى اسقفاً عاماً للدراسات اللاهوتية والثقافة القبطية والبحث العلمي، للحد من نفوذ اسقف التعليم، ليصبح الأنبا غريغوريوس، ويكتمل مثلث الاساقفة العموم المسند اليهم مهام خدمية محددة، وينجح ثلاثتهم فيما اسند اليهم من مهام.
وحين يأتى البابا شنودة يواصل نفس النهج فيقوم برسامة اسقف عام للشباب "الأنبا موسى"، الذى ينجح بشكل مذهل فى مهمته.
وظنى أن اضافة موقع اسقف عام مسند اليه مهام خدمية عامة محددة (التعليم ـ الخدمات لاجتماعية ـ البحث العلمى ـ الشباب) تعد اضافة جيدة وايجابية، وتحديث تحتاجه الكنيسة ويتفق مع ما نشهده من تطورات فى دور الكنيسة ويدعمهاً فى اداء رسالتها تجاه ابنائها ومجتمعها الخاص والعام.
لكن الذى يجب ان نوليه حقه من الدراسة والمراجعة هو رسامة اساقفة عموم دون مهام خدمية عامة محددة للكرازة، وهو أمر شاهدناه فى حبرية البابا شنودة الثالث وامتد الى حبرية البابا تواضروس.
وقد سبق وطرحت هذا الأمر فى كتابى "قراءة فى واقعنا الكنسى" 2015، قلت فيه :
[نرصدُ فى القاهرة ـ كرسى البابا ـ ظاهرة استحدثت فى حبرية البابا شنودة الثالث، ومازالت قائمة ومتنامية، وهى تعيين أساقفة عموم لمهمة الإشراف على قطاع جغرافى يضم عدداً من الكنائس، مثل مجموعة كنائس المعادى، مصر القديمة، شرق السكة الحديد، وسط المدينة، عين شمس وضواحيها، منطقة شبرا بقطاعاتها، وغيرها، وهى بالأساس تجربة مهمة تأتى فى سياق دفع وتفعيل الخدمة بهذه المناطق، بحسب تصور واضعيها، لكنها تبقى تجربة تحتاج إلى تقييم وإعادة قراءة فى ضوء الممارسة العمليةـ فهى بشكل ما تعنى تبعية القطاع لأسقفين ـ قداسة البابا أسقف المدينة والأسقف المعين للإشراف على القطاع وإدارته.
فضلاً عن تهميش دور كهنة الكنيسة المحليين وهو ما نشهده من الضغط الشعبى على الأسقف العام المعنى، طلباً لحل مشاكل شعب القطاع والذين يتجهون إليه مباشرة فى تجاوز لكهنتهم. وأدى هذا ايضاً إلى إختفاء وتهميش رتبة "الإيغومانوس" ـ القمص ـ فى غالبية تلك الكنائس مما أخل بالترتيب التدبيرى بحسب خبرة الآباء، ونتج عنه تساوى كل كهنة الكنيسة فى الصلاحيات مما أدى إلى بروز العديد من الخلافات وربما المصادمات.
ويبقى الأسقفُ العام هنا معرضاً للنقل أو إحالته للدير، لأسبابٍ متعددة، لأنه يتولى عملاً معاونا لأسقف المدينة بدون سند تراتبى طقسى، إذ يتم تعيينه إدارياً أو تنظيمياً خارج إطار الطقس الكنسى، فلا يضمن الإستقرار والإستمرار، أو ربما يُستَبعَد لنجاح البعض فى الوقيعة بينه وبين اسقف المدينة على خلفية أحد أمرين متناقضين؛6 إما عدم نجاحه فى الرعاية أو القبول الشعبى فتنتج حالة من التذمر فى صفوف الرعية، وإما يحدث العكس فيتواصل مع الرعية وتتولد حالة استحسان لما يحققه الأسقف العام وتنعقد مقارنات ليست كلها بريئة، ولا تصادف فى كل الأحوال قبولاً عند أسقف المدينة فيراها إنتقاصاً من هيبته.
وهو وضع يحتاج إلى دراسة قانونية كنسية، وينبه إلى أهمية إعادة الإعتبار لرتبة "الإيغومانوس" والتى هى ـ وفقَ التجارب المعاشة فى أزمنة سابقة ـ الأفضل رعوياً وتدبيرياً، وينطبق هذا أيضا على دراسة إحياء رتبة الـ " خورى إيبسكوبوس "، مساعد الأسقف، والتى تم تجربتها على إستحياء فى ايبارشية بنى سويف وإيبارشية القليوبية، ولم يكتب للتجربتين الإستمرار أو التكرار لأسباب مختلفة وغير معلنة، رغم أنهما وفرا حلاً قانونياً بحسب الآباء وقانون الكنيسة.]
وفى نفس السياق وبنفس الكتاب كتبت:
[تجربة إسناد الإشراف على مجموعات صغيرة من الكنائس للأسقف العام، أنتجت عملياً تراجع موقع الأب القمص عند رعيته، لحساب الأسقف الذى يجد نفسه غارقاً فى تفاصيل وتفريعات كان يحملها عنه الإيغومانس، ويتجاوز الشباب رعاتهم المحليين يطرقون باب الأسقف الذى يستريح لهذا، فتختل الرعاية، وفى تطور لاحق يمتنع على الكهنة صفة "راعى" التى تصبح قاصرة على الأب الأسقف.
وبين إستقدام الرهبان لمواقع الخدمة والتوسع فى إشراف الأساقفة العموم وتقسيم الإيبارشيات المبالغ فيه، يتم تقليص دور الخدام العلمانيين والكهنة المتزوجين لحساب الرهبان، وتعاود الكنيسة الأنين ومعها الدير والراهب، وينعكس هذا سلباً على الخدمة والأسر والشباب والراهب. بالرغم من إبهار الشكل، ونقترب من خبرة الشعب فى القديم الذين ألحوا فى الطلب على أن يكون لهم ملك إسوة بالأمم حولهم، (سفر صموئيل الأول ص8)، ونكتشف أنه لن تستقيم الخدمة مع إستمرار هذا المنهج. الذى لا يحقق التوازن الصحيح بين الخدام العلمانيين وكهنتهم وبين الخدام من الرهبان كهنة واساقفة.)
[وتبقى تجربة الأسقف العام بالأساس بحاجة إلى تقييم موضوعى بحثى فى ضوء نتائج التجربة على ارض الواقع، والتأصيل القانونى على مستوى القوانين الكنسية المسكونية وغيرها. وبحاجة إلى تقنين كنسى يوقف الجدل حولها ويضبط ايقاعها لصالح الكنيسة ورسالتها.]
ولستُ بحاجة إلى التأكيد على إحترامى وتقديرى للأباء الأساقفة العموم الموكل إليهم هذه المهام، فالطرحُ ينصب على التجربة لا على الأشخاص.
ونرجئ مناقشة الشطر الثانى من العنوان (آليات تكوين العقل والوجدان القبطى). إلى جزء تال.