قصة قصيرة : أحمد الخميسي
أمس الثلاثاء 11 مايو شيعنا تسعة أطفال قتلوا بصاروخ واحد في غارة على بيت حانون. سرنا خلف النعوش الصغيرة وكان بالقرب منا أحد الآباء، رحنا نرفعه من تحت إبطيه وهو يذكر أطفاله من خلال دموعه:" قتلوا جميعا في ملابس العيد ". تمدد الخوف بداخلي من أن يلقى طفلاي ريم وعمار وأطفال أخي أكرم الثلاثة المصير ذاته. هذا محتمل جدا، فقد قتلوا من عام 2000 إلى يومنا هذا ألفي طفل، بمعدل مئة زهرة صغيرة سنويا اقتلعوها في حقول الموت. محتمل جدا أن يسقط بيتنا في غارة فنختفي جميعا ولا يبقى من عائلتنا أحد.
ركبني هذا الخاطر الأسود فعدلت خط سيري واتجهت إلى شارع الجلاء حيث يسكن أخي. قبل المنزل بقليل شاهدت عن يميني حطام مكتبة الشروق. أحجار تساندت على بعضها.أخشاب مهشمة سوداء الأطراف. أسياخ بارزة. كتب تناثرت فاغرة الأوراق. لافتة من قماش انكسرت بين الأنقاض: " كتب وقرطاسية". صعدت إلى شقة أخي أكرم. كان نائما فأيقظوه. جاء إلى حجرة الضيوف بالبيجاما. قلت له: " أكرم أخي .. عمار ابني مازال صغيرا يحتاج إلى رعاية أمه، لكن ما قولك في أن أترك عندك ريم ابنتي؟ وتترك أنت عندي واحدا من أطفالك الثلاثة؟".
حملق أكرم في بنظرة من لم يفهم. قلت أوضح له : " إذا وافقت فإنه إذا تعرض بيتك للقصف ولا قدر الله مات الجميع فسوف يبقى طفل يحمل اسمك، عندي، وإذا دمرت إحدى الغارات بيتي تبقى روح حية من نسلي عندك؟". حدجني أكرم بانتباه. قلت له، وأنا مزعزع الثقة في سلامة الاقتراح:" في نهاية المطاف أيام وتنقضي. ابنك عندي أو ريم ابنتي عندك.. أيام وتنقضي". كنت أطلب رأيه، أن يقول لا هذا محال، أو أن يناقش المقترح، لكنه غمغم منطفئا من دون أن ينظر إلي: " ماشي الحال. قد تكون هذه هي الوسيلة الوحيدة لمرواغة الموت".
قدرت أننا اتفقنا فنهضت لأنصرف. وقف أكرم. تبادلنا النظر. كدنا أن نمد أيادينا لنتصافح لكننا لم نفعل. في طريقي إلى بيتي بشارع الوحدة تمهلت عند مفرق ضبيط. كان الشباب يتصايحون ويهرولون في كل ناحية على ضوء كشافات السيارات يحاولون انقاذ البعض من تحت الركام والأنقاض، وشابة في مقتبل العمر رفعت يديها الى السماء صارخة:" ياالله.. فليقصفونا معا مرة واحدة! ياالله"! واصلت طريقي إلى بيتي، وكانت ريم تلهو مع أخيها الأصغر عمار في الصالة. نظرت إليها. قلت لنفسي بحزم: " لا. لن أذهب بها إلى أي مكان. سنبقى معا، وليكن ما يكون. أنا لا أستطيع الاستغناء عنها لحظات". تذكرت صياحها كلما كنت أغسل وجهها بالصابون ثم انفلاتها من بين ذراعي وركضها متعثرة بين الكراسي واختباءها تحت السرير، حيث تحبس أنفاسها، أرفع غطاء السرير المدلى على الأرض. أحدق بها مبتسما فتصرخ وهي تحرك يديها أمام وجهها:" لا يا بابا .. لا تجدني بسرعة". لن يكون بوسعها أن تقول : " لا تجدني بسرعة" عندما ترتوي حقول الموت وتقطف الطائرات منها كل الزهور. ظللت جالسا على مقعدي في انتظار قدح الشاي من أم ريم. أغمضت عيني أسأل الله بحرارة أن يهبني إشارة تدلني على الطريق الصحيح. هل أذهب بها إلى عمها؟ أم أستبقيها معي؟.
فجأة دوي القصف مسموعا بقوة، وارتج زجاج النافذة، جريت أفتحها. كانت الطائرات تحلق على ارتفاع منخفض، والانفجارات تتلاحق واللهب يندلع هنا وهناك في الشارع، ثم تمايل البيت بشكل جنوني وسبح كل شيء أمامي متأرجحا متوهجا بلون أصفر وأحمر، وظهرت أم ريم وبيديها الطفلان. هرولنا نهبط الدرج. وقفنا في الشارع أمام العمارة مع بقية العائلات. كانت الأرض ساخنة تحت قدمي، والأطفال يبكون، بينما نحن ننظر إلي عمارة أبي عوف وقد سويت بالأرض ومن بعدها عمارة اليازجي. عشرون غارة واحدة بعد الأخرى ثم توقف القصف. صعدنا إلى البيت، فعاهدت نفسي: " غدا آخذ ريم إلى عمها".
في الصباح ، وكان ذلك يوم الأربعاء 12 مايو أمسكت بيد ريم في كفي ومشينا إلى بيت أخي أكرم. لم تكن المسافة بعيدة . لكنني حملت ريم على كتفي بعض الوقت. وصلنا إلى العمارة فتوقفت أمام مدخلها ولم أصعد. لبثت مدة وريم عن يميني تمسك بأطراف أصابعها كمشة من ساق بنطلوني، تجذبني منها، والهواء المتدفق من بحر غزة يهب علينا. رفعت بصري إلى شرفة الشقة. كان ثمت ضوء خافت على أطراف الستارة. جذبتني ريم:" بابا.. ألن نصعد لعمو؟ بابا؟". حركت قدمي خطوة ثم رجعت. عدت ببصري إلى الشرفة بأمل أن يطل منها أحد ويدعونا إلى الصعود فيحسم ترددي. جذبتني ريم:" يابابا". جلست على الأرض وركبتاي لأعلى. ضممتها بقوة إلى صدري. جاءني صوتها خافتا مع أنفاسها وهي تضغط بشفتيها الرقيقتين على طرف أذني: " يا بابا ؟ ".